لبنان يتفوّق على نفسه في ابتكار القصص المثيرة …وقضية “الحاج_ عيتاني” تستحق أن تدرّس في هوليوود

 

ثمّة قصّة طريفة يُقال أنها حصلت قبل عقدين من الزمن في إمارة أبو ظبي. تقول القصة إن مجموعة شباب لبنانيين توجّهوا إلى إحدى أهم شركات السيّارات عشيّة عطلة نهاية الأسبوع  وقبل وقت قليل من انتهاء دوام العمل الرسمي. اختاروا أحدث سيّارة دفعوا نصف ثمنها نقدًا وباقي المبلغ بموجب شيك مصرفي. استلموا السيارة وخرجوا بها إلى الشارع. ركنوها على بعد بضعة أمتار من الشركة وعرضوها للبيع بنصف ثمنها. خبرت الشركة بهذا التصرف الذي لم تجد له تبريرًا ولا فهمت أسبابه ما أربك المسؤولين فيها فاحتاروا كيف يتعاملون مع الأمر. لو قبضوا ثمن السيارة كاملًا لما اهتموا للأمر أصلًا، ولكن جزءًا من المبلغ لا يزال مُعلقًا بـموجب ”شيك“ مصرفيّ، ولا يمكنهم التأكد من وجود رصيد في الحساب لأن دوام العمل في المصارف انتهى وهم مقبلون على عطلة نهاية الأسبوع. لم يكن أمامهم سوى خيار تبليغ الشرطة التي جاءت واعتقلت المجموعة التي تبيع السيارة وأودعتها السجن بتهمة الاحتيال. ولكن المفاجأة كانت في وجود رصيد في المصرف يغطّي ثمن السيارة. أخرج الشباب من السجن، واعتذرت منهم الشركة عن سوء تقديرها وتصرفها. والاعتذار المعنوي لا قيمة له ما لم يُرفق بمبلغ تعويضي من المال بدل الإساءة التي تعرّضوا إليها وقضاء عطلة نهاية الأسبوع في السجن. وهكذا كان. حصلوا على السيّارة مجانًا إلى مبلغ من المال يُعادل قيمتها نقدًا، وذلك لدرء الفضيحة وتجنّب الدعوى القضائيّة التي لا بدّ ستنال من سمعة الشركة وتؤثر عليها سلبًا. حين سمع أحد المصريين الظرفاء السالفة، علّق: ”ايه ده يا جدعان، دي تدّرس في الجامعات“. لا ِشكّ أن هذه الحادثة، في حال حصولها فعلًا، تدلّ على حالة متقدّمة في الذكاء والدهاء، وفي حال عدم حصولها، فإنها تعكس خيال مؤلفها الخصب، وهي في كلتيّ  الحالتين تصلح لأن تدرّس في الجامعات

**************

صحا اللبنانيون قبل أشهر قليلة على خبر توقيف الممثّل المدعو ز.ع بتهمة التعامل مع إسرائيل، وقبل أن تكشف الجهات المعنية هويته للعلن، كان إسم الممثّل والمسرحي زياد عيتاني على كلّ شفة ولسان، وملأت صوره مواقع التواصل الإجتماعي. كان وقع الخبر صادمًا على المجتمع اللبناني بمختلف فئاته وانتماءاته وخاناته وتصنيفاته وأطيافه وتلاوينه. وقبل أن يصحو من الصدمة وينتظر تبيان الخيط الأسود من الأبيض، انقسم على نفسه بين مقتنع بالتهمة وبين رافض لها. انقسام ليس مبنيًا على أيّ مُعطى قانوني سوى أن المجتمع اللبناني سريع الإنشطار أفقيًا وعاموديًّا طائفيًّا ومذهبيًّا أو باختصار آذاريًّا في أي قضيّة مطروحة حتى لو تناولت بديهيّات من نوع شروق الشمس وغروبها. اعتقال فانقسام ثمّ بيان رسميّ من أمن الدولة يتضمن فيه إعترافات المتهم بالتعامل. كلّ ذلك حصل في أقل من 24 ساعة، ثم جاء بعدها الحديث عن تسريب الصحافة لمحاضر التحقيق وتحميلها مسؤولية الإضرار بالملف ووووالخ. اشتعلت مواقع التواصل الإجتماعي، المصيبة الكبرى التي لو عرف مخترعوها يومًا أنها ستقع بين أيدي اللبنانيين، لأعادوا ربّما  التفكير في الأمر. تعليقات وتخوين وأحكام مبرمة يقابلها مشكّكون في الاعتقال وأسبابه والجهة التي اعتقلت وحققت ويصيبون في سهامهم الصحافيين الذين سربوا الخبر- وبينهم في المناسبة صحافيون لو وقع مثل هذا الملف بين إيديهم لما فكروا مرتين في اتخاذ القرار بنشره-. وفي غمرة تبادل الاتهامات والتخوين ودروس في الوطنية وتنظيرات في ضبط ردات الفعل وانتظار القضاء ليقول كلمته، ضاعت القضية الأساسية ونسي المواطن المُحتدّ والمنفعل أسباب الهياج الذي هو فيه. ومع انقضاء الأسبوع الأول على توقيف عيتاني نسي الناس قضيته وكأنها مجرد فقاعة صابون، وبحثوا عن قضايا أخرى يتراشقون بحجتها

قبل أيام قليلة عاد زياد عيتاني إلى واجهة الأحداث، مع الحديث عن براءته من التهم المُوّجهة إليه. جولة عنف وتعنيف جديدة على مواقع التواصل الإجتماعي وإعادة انتاج جديدة لمفاهيم الوطنية والعمالة والتخوين التي لا تكتمل من دون إضافة العبارة – السحر: إن أكثر المستفيدين من التناحر اللبناني هو العدو الإسرائيلي! وكان يُمكن أن تنتهي البراءة كما الإتهام بجولة من إخراج”فائض الحب“ الذي يعتمر في قلوب المواطنين قبل الانقضاض على قضيّة جديدة يستخدمونها مطيّة لإفراغ ما في جوفهم من أحقاد داخلية وانقاسامات تتكاثر بإيقاع أسرع من إيقاع تكاثر الخلايا السرطانيّة. وكان لهم ما أرادوا أسرع ممّا توقعوا، إذ جاءت قضيّة المقدم سوزان الحاج المتّهمة بالإيقاع بالممثّل عيتاني من خلال “هاكر” لفّق له ملف العمالة من الألف إلى الياء، لتغذّي الأحقاد الطائفيّة بجرعة زائدة، وتعيد موضوع الإلتفاف حول العهد أو الإنقضاض عليه، وتوقد النار تحت صراع الأجهزة المتأجج. ومن كان مع انتظار القضاء ليقول كلمته في قضية عيتاني أصدر حكمه في قضية سوزان الحاج والعكس الصحيح. توالدت القصص من رحم بعضها. وكاد أن يكون لكلّ مواطن نسخته الخاصة من الحقيقة المطلقة. فاذا به يبدأ حديثه بعبارة  ”أنا رح خبرك شو اللي صار“، وما يخبرك إياه هو في العموم مزيج من التحليلات الشخصيّة والمواقف الخاصة التي لا علاقة لها بالقضية الأساس ولا تتضمن أي معلومة واضحة أو مُثبتة. ولكي يكتمل المشهد السوريالي، طلب وزير الداخلية نهاد المشنوق وسط حفلة الجنون الدائرة في البلد وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، طلب من اللبنانيين الإعتذار من الممثل اللبناني! وبما أن زمن توقيع العرائض لم يعد رائجًا، فيمكن احتساب اللايك على تصريح الوزير بمثابة اعتذار من عيتاني. وهكذا تنتهي القضية ونعود جميعًا إلى مواقعنا الإنقساميّة التي نتحصّن خلفها فرحين ومسرورين بانتظار قضية جديدة ننقضّ عليها

لبنان فعلًا، بلدٌ تفوّق على نفسه في ابتداع القصص المثيرة. لا تكرار، لا استنساخ، لا إعادات مملّة، بل ابتكار دائم وادهاش متواصل. ولعّل التكرار الوحيد الذي تدور حوله أحداث هذا الوطن من دون كلل أو ملل هو الفساد الذي نخر الطبقة السياسية حتى العظم. والمفارقة، أن هذه الطبقة ما تزال، رغم ذلك، صامدة ليس بقدرة قادر بل باستسلام مواطن انتقلت إليه عدوى الفساد وتفشّت في أوصاله. هذا كلّه ليس مهمًا حاليًا ما دام الصوت التفضيليّ بخير

 … لو كان المواطن المصري الطريف شاهدًا على ما يجري في لبنان هذه الأيام ومتابعًا لقضية “زياد عيتاني- سوزان الحاج” لكان صرخ بأعلى صوته قائلًا:  ايه ده يا جدعان، دي أقوى من أقوى أفلام المافيا الشهيرة ، دي تتدرّس في هوليوود

********

جود ابن الست سنوات قال قبل أيام لوالدته: ما في شي حلو بلبنان بدي فلّ من البلد 

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s