
حين يعجز اللسان عن الوصف أو حين تفوق المسألة، أي مسألة القدرة على التخيّل، يُحال الأمر إلى السورياليّة. إنّها الملاذ الآمن والمُنقذ من الإعتراف بالفشل في تفسير أي ظاهرة أو في فهمها أو حتّى في قبولها. لكن حين لا تعود السورياليّة مُعبّرة عن واقع الحال، فلا بدّ أن الحديث يطال لبنان واللبنانيين. أن تصف الوضع أي وضع بالسوريالي، فهذا يعني أنك لم تبلغ الحالة اللبنانيّة بعد، أو أنّك لا تعرف ما هو لبنان ومن هم اللبنانيّون، رغم أن صيت البلاد كما صيت مواطنيه بات ذائعًا هذه الأيام
باتت عبارة لبنان أو لبناني هي الصفة الأنسب، بل الأصح في التعبيرعن الحالة ما«فوق السورياليّة » فبدلا من القول ما هذه القصة السورياليّة، يُمكن القول ما هذه القصّة «اللبنانيّة» ليصبح المعنى أكثر دقّةً وبلاغة. والقرائن متوفّرة على المستويات كافة بدءًا من الشأن السياسي مرورًا بذلك الإقتصادي فالمعيشي وصولًا إلى الشأنين الإجتماعي والإنساني. ففي السياسة مثلًا، يتلهّى السياسيّون في لعبة توزيع الحصص والتأخر في تشكيل الحكومة والحرد والحرد المضاد كأنّهم يعيشون في عالم إفتراضي يقتصر فيه التفاعل على قلوب ملوّنة أو مكسورة أو أصابع زرقاء تبصم فترفع من رصيد هذا اللاعب مقابل ذاك، علمًا أنّه في النهاية وكما يقول المثل الشائع «كلّو عند العرب صابون». وما همّهم أيّ أصبع أزرق يُرفع في وجههم أكان الخنصر أم الأوسط، فالبلاد هي لعبتهم المفضّلة لتقطيع الوقت وقتل الممل بانتظار إنتهاء جائحة كورونا يقرأون فيها حركة الأصابع وفق أهوائهم وحاجاتهم لها، أو يهزأون منها ويتجاهلونها، هكذا بكل بساطة. يلعبون ويلعبون فقط متجاهلين ما يجري حولهم. إنفجار مرفأ من هنا غرق سفن الموت في طرابلس من هناك، موت مجاني في كل مكان؛ لاشيء يبدّل من مسار يوميّاتهم: يستيقظون صباحًا، يتأنّقون، يتعطّرون ويبدأون نهارهم رافعين شعار: «إعمل نفسك ميت» كما يقول المصريّون. هذه ليست أحداثًا سورياليّة، ففي السورياليّة بعض من الواقعيّة، أما في «اللبنانيّة» فلغة الطلاسم هي السائدة
قد يعتبر البعض أنّ لا تجديد في اللعبة السياسيّة اللبنانيّة، وأنّها باتت تفتقر إلى المخيّلة رغم أن أبطالها ما زالوا ملوك الساحة كأنّهم يتناولون مضادات الفناء. وهذا البعض مُحقّ في اعتقاده وخصوصًا أنّ الإبداع انتقل إلى المشهد الإقتصادي حيث المرح، كلّ المرح. ممّا لا شكّ فيه أنّ لبنان بهمّة مصرفييه، وعلى رأسهم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، تبوّأ المركز الأول في ابتكار قوانين وأنظمة ماليّة جديدة، قد يحتاج أعرق خبراء الإقتصاد وأكثرهم علمًا ومعرفة ونباهة إلى سنوات وسنوات لفهم علم المنطق التي يحكمها. ومن المفيد، بل من الضروري أن تُجمع كلّ القرارات الاقتصاديّة ونظام “الخرجيّة” الذي اتبعه النظام المصرفي في لبنان بعد أن وضع يده على أموال (المودعين صغارهم طبعًا وليس كبارهم) وتدرّس في الجامعات تحت عنوان: «كيف تنهب بلدًا في 24 ساعة». لذا، فإنّ وصف الوضع الإقتصادي في لبنان بالسوريالي، ينطوي على انتقاصٍ كبير وغير مقبول لفرداته وغرابته. ونظرًا لعجز اللغة العربية عن مواكبة التطورات في بلاد الأرز، وإيجاد المفردات المناسبة التي تجسّد حالتها، فإن استخدام عبارة “لبنانيّة” باتت تفي بالغرض وهي تعني تجاوز السورياليّة بأشواط، ومن صدّر الحرف ذات عصر إلى العالم، له كامل الحق في إضافة أوصاف جديدة إلى اللغة. هذا إذا أردنا مقاربة الموضوع من زاوية إيجابية إرضاءً لمن يخشون دائمًا على تشويه صورة لبنان في الخارج. لا مُبالغة أو تضخيم في وصف الوضع الإقتصادي إنّها الحقيقة التي يُصدّق عليها السواد الأعظم من اللبنانيين الذين يذوقون الذلّ أشكالاً وألوانا كلّما احتاجوا إلى سحب رواتبهم. الرواتب وليس الإيداعات لأنّ الأخيرة أتاحت للبنان تسجيل براءة إختراع في علم الكمياء تحت عنوان: «كيف تحوّل العملة الورقية ولا سيّما الخضراء منها إلى بخار». لا تكتمل الحالة «اللبنانيّة» بمعناها الـ «ما فوق السوريالي» من دون الإشارة إلى المواطن اللبناني نفسه. هنا، يصبح الوضع معقّدًا إلى حدّ كبير ويحتاج إلى الكثير من البحث والتدقيق لفهم تكوين هذا المخلوق من دون الوصول إلى نتائج أكيدة ومحدّدة. لم تعد نصرة الزعيم، أو التصفيق لكبير الطائفة، أو الاختلاف في الرأي الذي يتحوّل إلى خلاف وقطيعة بين أعز الرفاق والأصدقاء، من الأمور المُستهجنة رغم فظاعتها. لقد انتقلت هذه الحالات إلى خانة الأشياء التي نعتاد عليها، فنقبلها ونتأقلم معها بصفتها جزءًا من هوية وليست دخيلًا عليها. فلبناني اليوم يشبه السلطة في أدائه، وإن كان يقف في المقلب الآخر. هو أيضًا يستيقظ كلّ صباح، يشتم ويلعن الطبقة السياسية الفاسدة، يهدّد ويتوّعد متسلّحًا بوسائل التواصل الإجتماعي التي يخوض من خلالها أعتى المعارك «الدونكيشوتيّة» يهلع من صوت الرعد الذي يذكرّه بانفجار 4 آب، يملأ صفحات التواصل الاجتماعي بكوابيس ليله الطويل منذ ذلك اليوم المشؤوم، يعجن الطحين العراقي الذي أتلفه الشتاء في مستودعات المدينة الرياضيّة بالسمّ ويطعمه (افتراضيّا) إلى الطبقة السياسيّة الجاحدة التي تجوّع شعبها، يستنفد كلّ الـ «إيموجي» التي يتيحها له مارك زوكربيرغ للتعبيرعن تقبلات مزاجه وحالته النفسيّة المتدهورة، يخترع هاشتغ #فيلينغ كما تفعل كاتبة هذه السطور، إمعانًا في مزيدٍ من التعبير، يسترجع يوميّات ثورته المبتورة بحنين وأسى لا ينقصهما سوى صوت الكمان أو الناي للخلفيّة الموسيقيّة، يشعر أّنّه أتّم واجباته الإنتقاميّة على أفضل وجه وحصل على التفاعل والتصفيق الاجتماعيين اللازميين للتأكيد على أنه يسيرعلى طريق الصواب لاستعادة حقوقه وحقوقه زملائه المواطنين المهدورة. يمسح عرق انفعاله، ثم يخرج من البيت ليتابع حياته مزوّدًا بنوتات مختفلة من ال«نق» يستنبطها من أجواء ألعاب أبطال السلطة وبطلاتها. يقف في الطابور أمام المصرف للحصول على ما يتصدّقون عليه من راتبه، هذا الراتب-الفتات الذي خسر ثلثي قيمته بعد تدهور سعر صرف الليرة أمام الدولار الأميركي. يلعن، يشتم، يتوعّد، يُهدّد ويفتح هاتفه الخليوي ليسجّل مواقف مدويّة على صفحات التواصل الاجتماعي. يقع في هذه الأثناء على إعلان لتصفية على البضائع في أحد المتاجر التي تبيع علامات تجارية عالمية، يهرع إلى هناك ويحجز لنفسه مكانًا في الطابور الطويل
المشهد ليس سورياليّا، إنه لبنانيّ بامتياز. نجمة جديدة تعلّق على صدر هذا الوطن إلى جانب أكبرصحن حمص