
أما وقد التأمت عقارب الساعة معلنة اللحمة الوطنية في أبهى حللها، بعدما كاد افتراقها أن يتسبّب في ملحمة وطنية في أبهى حللها أيضا وايضا، لا بدّ من أن نهنّىء أنفسنا بالسلامة. “قطوع ومرق”، وإن كان قد مرّ علينا وليس بمحاذاتنا، فمزّقنا طوائف متناحرة ومتنافرة تُصفّق للعيش المشترك صباحًا وتحفر له قبرًا عميقًا مُتجذّرًا ومتوارثًا في كلّ مناسبة تشعر أو تستشعر أن وجودها مهدّد. الكلام ينطبق على كلّ الطوائف والمذاهب والملل والمجموعات. حتّى السواد الأعظم من أولئك الذين يدّعون العلمنة، رسم”خطوطا حمراء” جعلوها مطّاطة، لا يجوز تجاوزها. “علمانيين بس شي ومنو كمان” هو فحوى انفتاحهم وتقبّلهم للآخر.
لبنان بلد طائفي يعيش في كنفه شعب طائفي يتنفّس الطائفية بكلتيّ رئتيه وينتشي بحجم العدائية التي يزوّده بها كلّ نفس. وكلّ من يدّعي عكس ذلك، كاذب يحاول أن يتجمّل بما لا يملكه ولا قدرة له على التعامل معه اصلًا. آن للبنانيين أن يقرّوا ويعترفوا بطائفيتهم، لعّل هذا الاعتراف يشكّل خطوة أولى باتجاه ابتكار وسائل ناجعة للتعامل مع هذا الواقع وليس للقضاء عليه معاذ الله، اذ أن السياحة في المريخ باتت اقرب منالًا من هذا الطموح السوريالي.
لغاية في نفس يعقوبين (بري-ميقاتي) وفي سرّ من أسرار الدولة التي لن يكفي انقضاء الزمن للكشف عنه، قرّر رئيسان “مسلمان” أن يتلاعبا بالتوقيت بخفّة قلّ نظيرها، واستخدموا شهر رمضان حجة لذلك، وكأنّها المرّة الأولى التي يصوم فيها مسلمو لبنان، أو كأنّّه لم يسبق لهم أن صاموا في أشهر الصيف الأكثر طولًا وحرارة ورطوبة. استنفر قرار “الرجلان المسلمان” “رجال مسيحيين”، فاستغلوا المناسبة للعب على العصب الطائفي الذي لا يحتمل المزاح مُستغلين المناسبة لاسترجاع زعامة مفقودة للشارع المسيحي.
ضجران من ندرة الهموم والمصائب بسبب بلوغ البلاد في عهدهما وعهود من سبقهما مرحلة الكمال والإكتفاء المُطلقين، قرّر الرجلان المسلمان أن يلهُوَا بالتلاعب بعقارب الساعة أملًا في إضافة بعض المرح على “مدينتنا الفاضلة” التي ينتحر مواطنوها من فرط التخمة والرخاء. فلنتسلّى ونسلّيهم (أي الرعيّة الصالحة) بردود أفعالهم. وكان لهما ما شاءا و”حبّة مسك”. اشتعل البلد حقدا وكراهية، “اسلام ومسيحيين”، “نحن و هم” و “هم ونحن”. الأكثرية والأقلية، الحضارة والتخلّف… دارت الساعة دورة كاملة واعادت البلاد إلى نقطة البداية: انقسام طائفي إسلامي- مسيحي يُذكّر لمن يقرأ التاريخ، وهم قلّة، بأحداث ١٨٦٠ و١٩٧٥، حيث استبدلت الكلّة والبوسطة بعقارب الساعة.
أخرج اللبنانيون أفضل ما عندهم في لعبة تناتش البلد. سطعت الشعارات المُطالبة بالتقسيم والفدرالية كحلّ لأزمة التعايش المأزوم أو بالأحرى المهزوم وفق ما اقترح المُصحّح الإلكتروني في الهاتف الذكي، الأشد ذكاءً بل جرأةّ من الشعب اللبناني في الاعتراف بواقعه. شُدّ العصب الطائفي بفضل جهود المؤسسات الإعلاميّة من الطرفين التي لم تتأخر في بخّ سمومها ولعب دورٍ رياديّ في التحريض في مجتمع هشّ لا يحتاج الى كلّ هذا الشحن لينفجر طائفيّا. ثمّة يأتي من يقول لك : لماذا فُسّر قرار اللعب بالساعة على أنّه طائفي، وهو ليس كذلك؟”. فعلا، والدليل أنّ هذا القرار كان كفيلًا باشعال حرب أهلية ولو كانت وسائل التواصل الاجتماعي تُطلق رصاصًا حيّا وليس افتراضيًا لكانت احترقت بلاد الأرز وقضى من فيها رميا بالرصاص “الصائب” وليس “الطائش” هذه المرّة.
قلّة قليلة اعترضت على فكرة أن تُدار البلاد والعباد وفقًا لأهواء شخصيّة وفي جلسة دردشة أوحت أن قتل الوقت وانعدام الهموم استوجب حصولها. قلّة قليلة حاولت تصويب الأمر، ولكن محاولاتها باءت بالفشل تحت وابل القصف الطائفي من العيار الثقيل الذي أدارته المؤسسات الإعلامية بإبهارٍ شديد.
التأمت عقارب الساعة، وعاد الشعب اللبناني “يتعايش” صباحًا ومساءً وفي أوقات القيلولة مترصّدًا متأهبًا لتلقُف أي إشارة أو إيحاء طائفي ليعلنها حربّا شاء القدر ألّا تتجاوز حتّى الآن حدود الكلام، بانتظار إشارة ما من جهة ما للذهاب أبعد من ذلك. المهم أنّ الجهوزيّة تامة وقد أثبت اللبنانيون استعدادهم للاستبسال في الدفاع عن الطائفة بنجاح منقطع النظير.