رحل خالي عفيف. هكذا، من دون إشارة، أو إيحاء، أو تعبير عن رغبة في الرحيل من الرحيل الأول عن البلاد قبل ٣٥ عاما، إلى رحيل آخر لا عودة منه. كان يفترض بالرحيل الثاني أن يكون عودة إلى الوطن ليس بمعناه التنميطي، بل كخيار لا مفرّ منه لمن أثقل الاغتراب كاهله وأضناه. لم نتوقع عودته مُحمّلا في نعش، بل انتظرناه هابطًا من على سلّم الطائرة، واقفًا في طابور ختم الجوازات في المطار، متأفّفا من قلّة التنظيم وانقطاع التيار الكهربائي، ومطلقا العبارة الملكة: كيف عايشين؟
خالي عفيف، خالف كلّ التوقعات. عانده قدره، فحمله إلى طريق لا رجوع فيه. قد تكون المرّة الأولى التي أستخدم فيها اللقب(خالي)، فهو عفيف رفيق الطفولة، والشقاوة والأيام الحلوة. هو عفيف أو «ستوف الراعي» (شخصية في مسلسل لسميرة توفيق ومحمود سعيد) واحد من ألقابه الكثيرة، إذ كان لكلّ منّا لقبه في زمن لم تكن تُدرج فيه الألقاب في خانة التنمّر، فهذه الثقافة كانت بعيدة عن أساليب المناكفة بيننا. عفيف يكبرنا ببضعة أعوام، نحن صغار العائلة أنا وخالتي غادة وأخي بشار الأصغر بيننا. ولكنّه كان مُصنّفًا ضمن مجموعة الكبار (خالاتي واولاد اعمامهم ورفاقهم …) كبار بفارق أعوام قليلة أيضًا، ولكنّهم اعتادوا إبعادنا عن طريقهم بشتى الطرق: يخوفوننا من الجنّ والصالحة التي ستأتي إلينا في لباسها الأبيض لتخطفنا. رعب لازمني أعواما طويلة، أو بالأحرى لم يفارقني حتى الأمس القريب. يتفنّنون في استبعادنا عن عالمهم ليسهروا في ساحة بيت الضيعة، وتحت العريشة، وفي بيت ابو بشارة، يتبارون في إطلاق النكات والقهقهات حتى الفجر. أمّا نحن، فنغطي رؤوسنا باللحاف خوفا من الصالحة، حليفتهم في إحياء السهرات.ت
في الطرف الآخر من الضيعة يقع بيت عمّتي. العلاقة هناك مختلفة. لا ألقاب ولا صالحة ولا جنّ، بل فيض من الحب والاهتمام. أنا وأخي بشار (لم يكن الأشقاء الثلاثة غادي جاد ونامي قد رأوا النور بعد) «ولاد الغالي». في بيت عمتي، ابنها رشيد. وهو ابن خال عفيف أيضًا. اهل الضيعة كلّهم أقرباء. رحل رشيد بعد يومين من رحيل عفيف. كان رشيد الأقرب إلينا. كأنه صلة الوصل بين العائلتين اللتين تنتميان إلى ثقافتين مختلفتين. والثقافة في حينها كانت ترتبط اولا وأخيرا بالانتماء السياسي والعمل الحزبي. في بيت جدّي لأمي أيقوناتنا هم لنين وماركس وانجلز، وشعارنا هو المطرقة والمنجل. وفي بيت عمتي إيمان وتقوى وبعد عن العمل السياسي. كان رشيد في منزلة بين منزلتين. كان حالمًا وطموحًا ومحبًّا للحياة. كان رومانسيّا، رقيقًا وسريع الانكسارلأنّه يملك قلب طفل حافظ عليه حتّى يوم رحيله. لم ترحمه الحياة، فعاش في غربة ووحدة بعدما سحقت أحلامه في تأسيس عائلة وهزمته بقساوتها وظلمها، ثمّ اجتاحه المرض، وكان الرحيل الذي استعجله بنفسه.ه
*****
هجرنا الضيعة التي لجأنا إليها هربًا من جحيم الحرب في بيروت واقمنا فيها صيفًا كاملًا عام ١٩٧٦، ثم عدنا إليها في هروب آخر في العام ١٩٨٣. لم نعد في عودتنا الثانية صغارا. أمّا هم فقد اصبحوا كبارًا فعلًا لا ادعاءً، وتحوّلت أحاديثهم إلى نقاشات في الحرب والسياسة. رحلت الصالحة عن فضائنا بعد أن عشّشت في مخيلتنا، وبقينا مدلّلين في بيت عمّتي الذي كان يلجأ إليه أخي بشار كلّما اعترض أحد عل شقاوته أو حاول أن يلجمها.ا
هجرنا الضيعة هذه المرة من دون عودة اليها حتى التحرير في العام ٢٠٠٠. تفرّق الشمل، وأصبح عفيف مقاتلًا في صفوف الحزب الشيوعي، ورشيد منصرفًا إلى تأمين نجاته ونجاة والديه وأخوته من الحرب في هروب متواصل من منطقة خطرة إلى منطقة أقل خطورة بين بيروت وعاليه والجنوب.ب
اذكر أنّ في لقاءاتنا اللاحقة، كان عفيف يخبرني عن المعركة ضد حركة التوحيد في طرابلس، يحكي ويحكي، يحكي ويبكي عن رفاقه الذين استشهدوا إلى جانبه، عن الطنين في أذنيه بسبب القنابل التي تنفجر حوله، عن تآمر منظّمة التحرير الفلسطينيّة التي حاولت الدخول مجدّدا إلى لبنان من بوابة طرابلس في تحالفها مع قوى التوحيد الإسلاميّة. هذه المعركة التي أظن أنّها حسمت خياره في رحيله الأول إلى الاتحاد السوفياتي كما كان اسمه في حينها.ا
*******
رحل عفيف ثمّ لحق به رشيد بعد يومين فقط بمشهد سوريالي يذكّر بالتراجيديا الإغريقية، إذ تشابهت حياتهما ومعاناتهما رغم آلاف الكيلومترات التي تفصل بيروت عن موسكو. علق عفيف في اغترابه كما علق رشيد في وطنه، يائسان، كئيبان ووحيدان. عاشا غربتين تحمل كلّ منهما نكهة المرارة والقهر والظلم، ظلم الحياة والحظ العاثر.عدنا بالأمس إلى الضيعة، وانتقلنا بين بيت جدّي في أول الضيعة وبين بيت عمتي في طرفها الآخر، ليس هروبًا من الصالحة والجنّ ولا بحثًا عن دلالٍ إضافي، أو بنيّة ابتزازٍ عاطفي للـ«كبار». كنّا نكفكف الدموع ونرتق الجراح التي فُتحت على طول المساحة الفاصلة بين البيتين.ن
…خالي عفيف وابن عمتي رشيد: وداعًا