الله يهدكم متل ما هديتونا

 

 

 

1630690861_0

حين كنت أعمل في مهنة الصحافة، كان شهر كانون الأول مخصّصًا لتحضير مواضيع مرتبطة بجردة أحداث السنة. لا أدري لماذا كنت أتحمّس لهذا النوع من المواضيع، علمًا أنني أخشى انقضاء الأيام التي يلازمني شعور دائم أن سرعة جرييها تزداد. وأظنّ أنّ العدد الوحيد الذي كنت أقرأه كاملًا وأحتفظ به أحيانًا في أرشيفي الخاص هو هذا العدد السنوي رغم أنني لا أحسن احتساب الأعوام، وكلّ ما حصل أدرجه في خانة الأمس القريب حتى لو مضى عقد أو أكثر على حصوله. أحبّ جردة ألاحداث السنوية لسببٍ لا أفقهه. قد يكون حب من دون سبب، ولكنّني أبغض الجردة الخاصة على المستوى الشخصي، تمامًا كما تستفزّني القرارات «المصيريّة» المرتبطة ببداية السنة الجديدة.ة 

بعد أن تحرّرت من وظيفة مهنة الصحافة، افتقدت إلى هذه الجردة من ضمن قائمة أشياء أخرى في مقدمتها رصانة المهنة نفسها أسوق هذه المقدمة ويدور في بالي سؤال واحد، ماذا عن جردة أحداث هذه السنة؟ هل تستحق المواضيع أن تُقسّم ضمن فئات وأبواب في السياسة والاقتصاد والاجتماع؟ أم أنّ عنوانًا واحدًا يُغني عن كلّ التفاصيل التي أضحت من دون أي قيمة مُضافة سوى العلك؟ عنوان واحد: الإنهيارالتام، الكليّ الشامل وسواها من المفردات التي تعزّز معنى الانهيار من  دون الحافة والشفير اللتين أصبحتا خلفنا، بل فوقنا بكثير إلى حدّ لم نعد نميّز حدودهما. هل تستحق مواقف السياسيين الكرام قاطبةً أن تُستعرض وتُحلّل وتُناقش إلّا في حال كانت الغاية التأكيد على أنّهم جميعًا نصّابون ومجرمون و”حرامية” ومتواطئون، وليست الخلافات التي تطفو على سطح الأحداث  بين الحين والآخرسوى تضارب في المصالح الشخصية سرعان ما يُعاد ترتيبها بما يخدم بقاؤهم في السلطة. هل تستحق قرارات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بالتكافل والتضامن مع الطبقة السياسة الحاكمة وجمعية المصارف أن تُسترجع وتُفنّد للقول أنّهم تفوقوا على أنفسهم في نهب البلد؟ قد يفيد استرجاع القرارات لإصدار كتيب تحت عنوان: «كيف تنهب البلد في عشرة أيام» يُضاف إليه عبارة ب«وقاحة» أو «من دون يرّف لك جفن» لتعطي المضمون بعده اللبناني.ي

في جردة السنة مشاهد انتحارٍ وجوعٍ وفقرٍ وتسوّل تتكرّر كلّ يوم لتطغى على ما عداها من أحداث وأقوال وتحليلات. أيّ موقفٍ لسياسي يستحق أن يُسترجع ويُحلّل ويُناقش أمام قصة الشاب الذي انتحر في صور لأن الموت أكثر رحمة من حياة الذلّ التي يعيشها؟ في يوميّات بلدنا الذي نُهب رجلٌ في عقده السادس يركن سيارته في منتصف الطريق مُدّعيًا أنّها فرغت من البنزين لأنّه يخجل أن يتسوّل ثمن رغيف الخبز. ليس في ادعائه أيّ نصبٍ أو احتيالٍ، فتعابير وجهه كانت تشي بخجلٍ وارباكٍ كبيرين حالا من دون أن ينظر في وجه من يتسوّل منهم. في يوميّاتنا أيضًا وأيضًا شاب يجهش في البكاء أمام سيّدة  قدّمت له مبلغًا من المال أكثر ممّا كان يتوقّعه لشراء دواء لوالدته، وجندي يقول له الموظّف في المصرف أنّ حسابه مكشوف على ثلاثمئة ألف ليرة لبنانية، فيجيبه الجندي أنه يحتاج الى 50 الف ليرة فقط ليلتحق بمركز خدمته في النبطية، وعائلات افترشت الشارع لأنها لا تملك تسديد ايجار منزلها بعد أن أصبح راتب ربّ المنزل يُعادل ثمن منقوشة زعتر. قصص الذلّ لا تنتهي في بلاد الأرز، ولو أراد كل منّا أن يكتب ما يُصادفه في يوميّاته، قد لا تكفيه صحف العالم ليروي قصص ناس ناموا مطمئنين لمستقبلهم ومستقبل أولادهم، واستيقظوا في صباح اليوم التالي ليجدوا أنّهم انتقلوا إلى الضفة الثانية وأنّ كلّ ما جمعوه تبخّر، وأن عليهم أن يسمعوا لَعْيَ السياسيين وكذبهم ونفاقهم وأن يكونوا شهودًا على أكبر عملية نصب في التاريخ. في جردة السنة، لم تعد تنطلي على أي عاقل، أنّ الازدحام في بعض المطاعم والمقاهي والنوادي الليليّة دليل على عافية لبنان وقدرته على التغلب على الصعاب. عملية حسابية بسيطة تربط بين عدد المرافق التي ما تزال تعمل وقدرتها التشغيليّة وعدد روادها اليومي والأسبوعي والشهري (يمكن أن يجريها طالب في صف الخامس ابتدائي من دون الحاجة إلى عبقرية مهندسي السياسة المالية اللبنانية) تؤكد أن هذا مؤشر لا يُبنى عليه حتى الانطباع الإيجابي، فكيف بخلاصة اقتصادية كاملة متكاملة! أمّا أصحاب الطاقة الإيجابيّة وأصدقاء طائر الفينيق، فنقول لهم إن النعامة رفعت رأسها من الرمل على وقع صراخ اللبنانيين وعويلهم وطائر الفينيق قصّ جناحيه حتى لا يحلق مجددا على أنقاض البلاد والعباد، وأنتم تحبّون الارتفاع ولو على خازوق… فهنيئًا لكم. في جردة سنة مليئة بالقهر والمآسي والذّل، لا أجد سوى أدعية جدتي لتنفيس بعض الغضب والاحتقان:«الله يهدكن متل ما هدّيتونا» على أمل أن يشّق الله نافذة السماء ويسمع!ع

ملاحظة : سبق أن نُشر هذا المقال على صفحتي على فايسبوك بتاريخ21 كانون الأول 2022 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s