
لم يبق أمامي سوى الله ليجيبني على جملة الأسئلة التي تطحن في رأسي وتكاد تفقدني صوابي. دوّنت هذه الأسئلة على دفتر الملاحظات لأسأله بشأنها حين نلتقي، وما دمت مواطنة لبنانيّة مقيمة في ربوع الوطن، فإن اللقاء مرجح في أيّ لحظة. إنّه في الواقع سؤال جوهريّ يمكن أن أختصر به كلّ ما أود مناقشته مع الله بسبب ضيق الوقت وخصوصًا أن الصفّ خلفي قد يكون طويلًا. سأسأله: من أيّ طينة صنع السلطة السياسيّة عندنا في لبنان؟ هل ثمّة عجنة خاصة تختلف في تركيبتها عن العجنة المعتمدة لصناعة سائر المواطنين الآخرين؟ هل غفل عن إضافة المواد التي تحرّك الحواس الخمس مثلًا؟ وماذا عن الشعور؟ هل ينعدم تلقائيّا ما إن يتبوّؤن مراكز في السلطة؟
هذه بعض الأسئلة التي تقضّ مضجعي عند كلٌ أزمة تواجه لبنان ويتجاهلها السياسيون أو يتعاملون معها كأنٌها لم تحصل أصلًا. تحضر هذه الأسئلة ثم لا تلبس أن تغيب تحت وطأة الضغوطات اليوميّة. لذا، أعمد إلى تدوينها مع تعليلٍ وشرحٍ وافيين حتّى أواجه الله بالأدلة الدامغة في حال استفسر عن أسباب هذه التساؤلات أو أنكر أحقّية طرحها. دفتر الملاحظات مليء بالحجج والأحداث الدامغة التي تؤكد أنّهم مصنوعون من غير طينة البشر. أحداث لا مجال لذكرها هنا، فكلّ لبناني لديه ما يكفي من التجارب الخاصّة والعامّة التي تخرج هذه المقولة من فضاء الاحتمال إلى عالم اليقين. أدوية وطعام وماء وهواء فاسد ومسرطن، سرقة ونهب وإفقار وتجويع وبعد… بوقاحة قلّ نظيرها. عينة بسيطة وسريعة تكفي لإصدار أحكام بالسجن المؤبد على كلّ مسؤول لبناني حتّى ولو كان مجرّد شاهد ولكن صامت على تسميم الناس وقتلها. سأسأل الله عن نوع هذه الطينة، ولماذا خصّ بها الطبقة السياسية عندنا من دون سائر دول العالم؟لماذا؟
في دفتر الملاحظات والأسئلة فتحت قوسين كبيرين يتضمنان أسئلة عن طينة اللبنانيين أنفسهم. ما هو سرّ قدرتهم على التحمل؟ ماذا عن النسيان ؟ التأقلم ؟ القبول؟ الخضوع؟ هل هي صفات حميدة؟ مميّزات وطنيّة؟ هل تلك هي حقيقتنا أم يتراءى لنا ذلك؟ نظنّ أنّنا أحياء ونحن أموات منذ زمن؟ هل منحنا هذه القدرة لتعذيبنا أم لإعطاء سياسينا مزيدا من السلطة والقوة واللذة ؟ لا سلطة من دون رعايا، ولا قوة من دون ضحايا. هل نحن مجرد عناصر لاستكمال جبروت هذه السلطة التي تستمد قوتها من ضعفنا وعجزنا. سأسأل الله حين نلتقي ولا بدّ له أن يجيبني
هذه أسئلة ما قبل الانفجار؟ انفجار المرفأ الذي لا بدّ أنّ دخانه وصل إلى عند الله، إلى عقر داره، ولا بدّ أنّ الملائكة أصيبت بالاختناق من شدّته وكثافته. أمّا بعد الانفجار لم يعد لديّ الرغبة في معرفة طبيعة الطينة وموادها الأوليّة. كنٌا نلملم أشلاء ضحايانا، كانوا يتأنّقون أمام مراياهم ويسألونها إن كان ثمّة من يتفوّق عليهم، في هذه المعمورة، في بلادة أحاسيسهم. احترقت دموعنا، وجفّ ريقنا، وأصبحنا جثثًا منها ما هو هامد ومنها ما يسير من دون هوادة (فقط في لبنان تتحرّك الجثث، ما استوجب إضافة هامدة؛ الخطأ الشائع لغويًّا على الجثث لتمييزها) وكانوا يتنافسون على المتاجرة بالدماء التي سالت أنهرًا في بيروت. كنّا نصرخ بأصوات مخنوقه وأنفاس محروقة، وكانوا يعيدون توزيع الحصص في الوطن الإفتراضي التي قالت الشعارات إنّنا سنعيد بناؤه. كنّا نتظاهر، لا لم نكن نتظاهر، كنّا نبكي ضحايا الأمونيوم ونشيّيعهم وكانوا يرمون علينا الغاز المسيّل للدموع ويصطادوننا بالرصاص الحيّ. صمّوا آذانهم وتابعوا جشعهم كأنّ ما حصل لم يحصل. لم يذرفوا دمعةً واحدة، لم يحضنوا أمًّا مفجوعة، لم يكفكفوا دمعة طفلٍ أصبح يتيمًّا في ثوان معدودة. بكانا العالم وهم يتلفّتون حولهم ويفكّرون كيف سيسرقون المساعدات التي انهمرت على لبنان من كلّ حدب وصوب. سرقوا أعمارنا وأموالنا، جعلونا متسوّلين وجعلوا العالم يُشفق علينا. أي مذلّة هذه
“كنا وكانوا” خطّان لا يلتقيان ولن يلتقيا أبدًا. إمّا نحن وإمّا هم. ولما كانت تلك هي المعادلة الوحيدة المقبولة اليوم، فقد مزّقت كلّ الملاحظات والأسئلة وعدلت عن توجيه أيّ منها إلى الله. قرّرت بعد ٤ آب أن أتوجّه بحديثي إلى عزرائيل شخصيًّا. سأساومه على طريقة الساسة اللبنانيين، سأرشيه، سأدفع له بالعملة الخضراء ليخطف أنفاسهم واحدًا واحدًا على أن يتلف بعدها الطينة التي صنع منها الله الساسة في لبنان، ويتلف الوصفة حتّى لا تقع في يد ملاك فاسد (ساستنا يفسدون الملائكة)، فيرسلها إلى الطبقة السياسيّة لتعيد إنتاج نفسها إلى أبد الآبدين