أمّا وقد دخل الحجر المنزلي أسبوعه الرابع، يُمكنني أن أؤكد لكم أنّه لم يكن ممتعًا على الإطلاق، بل قابضًا على الأنفاس والمزاج، ومُدمّرًا لخلايا الجهاز العصبي من دون رحمة. أدركت الأمر منذ اليوم الأوّل، ولكنّني آثرت الصمت تجنبًا لتهمة بثّ الطاقة السلبيّة والتعرّض لمُعاقبة قاسية على صفحات التواصل الاجتماعي يُنفّذها بحقّي جيش الطاقة الإيجابية. رغم أنّ التهديد ما يزال قائمًا، أظنّ أنّ الرغبة في البوح بحقيقة مشاعري وهواجسي تستحقّ بعض المجازفة
لا أدري فعلًا إذا دخلت في الأسبوع الثالث أم الرابع من الحجر. لم أعد أحسن احتساب الأيام، فالعلامات الفارقة التي استنبطها من حركتي اليوميّة واستخدمها لتنشيط ذاكرتي، سقطت كلّها دفعة واحدة في زمن العزل الكوروني. لا أميّز الأيام ولا أعرف متى يبدأ الأسبوع ولا متى ينتهي. لعلّها المرّة الأولى التي أفكّر في شكل الأسبوع فلا أراه سوى دائريّا، أمّا الأيام فأتخيّلها خطّا طويلًا لا أميّز نهايته. أنظر إلى الساعة لمامًا، وقد لا أنظر إطلاقًا. أنساها أو أتناساها، لا فرق، مرميّة في إحدى زوايا البيت. هذه الزوايا التي أُدرج التنقيب فيها وتأمّلها ضمن قائمة”فوائد الحجروإيجابيّاته“. لم أجد شخصيًّا أيّ فائدة للحجر سوى الحؤول دون إنتشار فيروس كورونا وحماية حياة أهل هذه الأرض بدءًا من الأكثر قربًا وصولًا إلى الأكثر بعدًا في المقلب الآخر من الكوكب حيث كنت أخطط للسفر في صيف هذه السنة المنكوبة. لا أقلّل من أهمية هذه الفائدة ولا أعارض موجباتها، بل أرى أنّها الفائدة الوحيدة المُهمّة التي تستحقّ من دون نقاشٍ أو استثناءات عناء العزل المنزلي، وكلّ ما عدا ذلك من إيجابيّات ليس سوى تجميلًا زائفًا ومُفتعلًا يرفع مستوى التوتّر، توتّري، إلى أقصى درجاته. لا أرى النصف المُمتلىء في هذا الكوب، كوب العزل، وتفعل فيّ الدعوة إلى استنباط الإيجابيّات أو اختراعها فعل المُسكن مع الألم، فما إن ينقضي مفعوله حتّى يعود مضاعفًا. حاولت أن أدخل لعبة الإيجابيّات، بل أن أستمتع بالإقامة الجبريّة عملًا بالنصائح التي يبثّها جيش الطاقة الإيجابيّة، ولكن من دون جدوى. وغالبًا ما كانت تأتي النتائج بمفمعولٍ عكسيّ لترفع منسوب الإحباط والكآبة مع حلول المساء. لا أُخفي سرًا، حين أقول إنّني كنت عضوًا فاعلًا في هذا الجيش قبل حقبة الكورونا، ورفعت حتّى الأمس القريب شعار ”الحياة ما بتستحق هلقد قهر“. أخال، وأنا أكتب هذه السطور، أنّ هذا الشعار نفسه هو مصدر قلقي واكتئابي واستيائي، فالكورونا هو القهر الذي لا تستحقه الحياة في معناها الواسع والشامل. يُصبح القهر مُضاعفًا في ظلّ تجميل القبح (العزل المنزلي) والتذاكي لإنتاج حياة مُصطنعة تُشبه وجه امرأة فعلت فيه عمليّات التجميل والسيليكون فعلها المقيت وحوّلته لعبة جفصين باردة، خالية من أيّ انفعالات أو تعابير إنسانيّة. لا يبدو هذا الكلام شعبيًّا، ولكنّه يعكس حقيقة مشاعري التي تتلهّى بي ليل نهار
إ”فرحو في العزل، اكتبو في العزل، إقرأو في العزل، شاهدو الأفلام في العزل، إطهو في العزل، نظّفو بيوتكم في العزل…“ دفعة النصائح هذه التي لا يتوانى جيش الطاقة الإيجابيّة عن بثّها على مدار الساعة، تثير حنقي وتستفزّ سخريتي إلى حدودها القصوى. فحين تتحوّل المتع الصغيرة (باستثناء التنظيف والطبخ اللذين لم أعتبرهما يومًا من المُتع) إلى فعل أمرٍ فرضه الواقع تسقط عنها صفة المُتعة لتصبح واجبًا، وهو الصنف الذي لا أحسن التعامل معه وأفشل عند المحاولة فشلًا ذريعًا. أقرأ حين يحلو لي، وكذلك أفعل فيما يخصّ الكتابة أو مشاهدة الأفلام، أو حتّى في التواصل مع الأصدقاء الذي لا ألمس حلاوته إلّا حين يكون حيًّا ومُباشرًا. أنعزل عندما أرغب في ذلك، كثيرًا ما فعلتها ولا بدّ أن أفعلها طوعيًّا، مرارًا وتكرارًا، في حال نجوت من وباء الكورونا. لعّل الأمر مرتبطٌ بالمزاجيّة التي تغلب على طباعي وبالرغبة الدائمة في التفلت من كلّ القيود. أهرب من السائد والمألوف وأبحث دائمًا عن الإختلاف، أنسحب من القطيع لأغرّد خارج سرب التنميط ليس بنيّة التمايز ولكن تلبيةً لرغبةٍ داخليّةٍ جامحةٍ بالرفض الدائم لما يحظى بالإجماع. تمرّد طفولي ربّما أبى أن يغادرني
تبدو الدفعة الأولى من نصائح جيش الطاقة الإيجابيّة أكثر رأفةً وقبولًا وتحمّلًا من الدفعة الثانية التي تتجاوز الاقتراحات العمليّة لتمضية الوقت إلى الدعوة للتأمّل الوجودي. هنا تقع الطامة الكبرى! وهل فعلًا يحتاج الناس إلى وباء ليطرحوا على أنفسهم الأسئلة الوجوديّة؟ وهل أعطي الكورونا وكالةً حصريّةً للتحفيز على التفكير ومن بعدها مباشرة المسامحة والتسامح. وماذا عن كلّ الويلات التي عايشها الجيل الذي يشهد على كورونا اليوم، ألم تكن كافيةً لإجراء التمرين الوجودي؟؟؟ لعلّ أكثر ما سمعته أو قرأته في هذا الإطار سذاجةً، القول إنّ العالم سيتغيّر بعد الكورونا، وسيصبح البشر أكثر إنسانيةً، وسيتعلّمون الدرس الذي لقّنتهم إيّاه الطبيعة. أقول: هراء، وأفضّل هنا التعبير بالإنكليزيّة ”بول شيت“. العالم يزداد وحشيةً لا إنسانية. وكلّ وباءٍ يُمعن أكثر فأكثر في كشف الجانب الوحشي لدى بني البشر. نظرة سريعة في زمن الانتظار إلى التاريخ القديم والحديث، أو ربّما الاكتفاء بحادثة إقدام بعض الدول على سرقة الكمّامات من درب دول أخرى تؤكد أنّ تفعيل الإنسانية في أزمنة المصائب والأوبئة هو محض هراء. غدًا حين ينتهي كورونا، ستعاود البشريّة إلى ممارسة عدائيتها من حيث انتهت في المشهد قبل كورونا، علمًا أّنها لم تنفك عن فعل ذلك أثناء الوباء
فكّر، عزيزي المعزول بنفسك، بإخفقاتك الكثيرة ونجاحاتك المحدودة، بأحلامك وطموحاتك، بالأذى الذي ألحقته بالآخرين أو الأذى الذي ألحقوه بك. فكّر من أنت؟ من تكون؟ وماذا تريد؟ فكّر بالخلق والنجوم والمجرّات ولا تنقطع عن التفكير حتّى لوأدّى بك الأمر إلى الخروج مجنونًا من العزل، المهم أن تخرج، وهنا تكمن روحيّة مفاهيم الطاقة الإيجابيّة. حسنًا، ولكن ماذا عن الذين سبق أن أنهوا هذه المهام التفكيريّة، وأنا واحدة منهم؟ ماذا نفعل؟ هل نعيد التفكير، انطلاقًا من أنّ في الإعادة أفادة!!! لقد سبق أن فكّرت وفكرّت كثيرًا. تصالحت مع نفسي، ومع ناسي، ومحيطي، ومجتمعي، ومع الكون. قبلت الآخر وتركت له حريّة أنا يقبلني أو يرفضني متفهمةً خياره. أيقنت أنّ الشعار الذي رفعته يومًا: ”الحياة ما بتستحق هلقد قهر“ ذو فعاليّة مستدامة. ولأنّ الحياة على ما هي عليه قرّرت أن أعيشها ولا أهدرها على توافه الأمور، أن أستغل كلّ لحظة وأجعلها لحظة حياة وحياة فقط. جاءت كورونا لتعيق تفكيري الإيجابي، لتجمّده، لتسرق أيامي التي كنت أنوي أن أسرق لحظاتها الحلوة، ماذا أفعل؟ أنتظر وأنتظر فقط لأغتنم فرصة الحياة مجدّدًا. أنتظر بشوقٍ لأن أراقب صخب الحياة من على شرفة منزلي و ألوّح لها بيدي، ومن ثم أتابع قراءة رواية ما بين يديّ. أنتظر من دون إطلاق دعوات الحب والحنان واستحضار فائض العواطف لأغمر به كلّ من هم حولي فعليًّا وإفتراضيًا. لم يُحفزني فيروس كورونا على فعل ذلك. لقد عايشت ظروفًا أكثر صعوبةً وتعقيدًا وكانت أكثر كفاءة في استنفار منظومة مشاعري بعفويّةٍ وصدقٍ تاميْن. تخليّت عن توافه الأمور قبل حقبة كورونا، تعلّمت استخدام الأذن الطرشاء في الاستماع إلى ما لا يعجبني، أتقنت عدم خوض نقاشات بيزنطيّة، ومرّنت نفسي ولا أزال على الابتسام بدلًا من الردّ الذي لا أرى منه طائلًا في مواضيع خلافيّة. لم أفعل ذلك وأنا أنظر إلى السقف بانتظار القضاء على وباء كورونا، أو وأنا أستجلب سعادة مُزيّفة واحتفاليّة بلهاء باستغلال وقت العزل إيجابيًّا. فعلته على مرّ الأيّام والأعوام والإخفاقات والإحباطات، ودفعت ثمنه الكثير من الدموع والألم والخسارات والكثير أيضًا من التمرّد؛ وقلت آن الأوان لأن أعيش الحياة كما أرغب لا كما يجب وفق منظومة قوانين تمعن في تقييد الإنسان بدلًا من أن تحرّره. قرّرت أن أعيش الحياة كما أرغب بعد أن أيقنت فعلًا ”أن الموت قد يكون أفضل طريق إلى الحياة“ (نقلا عن الرفيق برلين في لا كازا دي بابل). لا فضل للعزل المنزلي بذلك ولا لمسبّبه فيروس كورونا الذي لم يفعل سوى تأكيد المؤكد في منظومة قناعاتي. لذا، كلّ ما أفعله في حقبة كورونا هو الانتظار. أنتظر بقلق وتوتر. لم يكن الانتظار والهدوء يومًا مُكمّلان لبعضهما أو مُتجانسان أو يمكن إيرادهما في حالة نفسيّة واحدة. أنتظر بخوفٍ ورعبٍ من أن تسبقني الحياة وهي تفعل حتى ولو كان كل الكوكب معطلًا، فالحياة تسير وفق شروق الشمس وغروبها، وتنزع كلّ مساءٍ صفحةً من يوميّات لم أكتب عليها سوى عبارة الانتظار. أنظر إلى السقف من دون أفكار كبيرة وخطيرة. أنتظر وحسب