وفي اليوم الـ33: أين أصاب المنتفضون وأين أخطأوا

73342354_402363734019939_605301552185344000_n

 

 حين نزل المواطنون إلى الشارع عشية 17 تشرين الأول، لم يكن هناك مُخطّطًا للتحرّك، ولا استراتجيا للاستمرار، ولا لائحة بالمطالب، ولا حتّى ثقةً بأنّ هذا التحرّك سيأتي بأيّ نتيجة إيجابيّة. كانت صرخة غضب لا أكثر ولا أقل، لم يكن متوقّعًا أن تتجاوز أصداؤها المتظاهرين أنفسهم. ولكن ما فاجأ المتظاهرين قبل أن يُفاجئ السلطة أن صراخهم لاقى تجاوبًا منقطع النظير، فلبّى مواطنون آخرون الدعوة لتمتلئ الساحات على مدى الأيام التالية في مشهدٍ موحّدٍ قلّ نظيره يجمعه العلم اللبناني ولا تفرقه مناطقيّة أو طائفيّة أو مذهبيّة. تحوّل المتظاهرون في رياض الصلح خلال أيامٍ قليلة إلى منتفضين انتشروا على مساحة الوطن وأجمعوا على المطالبة باستعادة حقوقهم في العيش الكريم. لقد نجحت السلطة، مشكورةً، لمرةٍ واحدةٍ استثنائيّةٍ أن توحّد المواطنين على مطلبٍ واحدٍ: وقف الهدر والفساد، المحاسبة، واستعادة المال المنهوب. ”ليس لدينا مطالب بل لدينا حقوق“. قد تكون هذه العبارة الأكثر بلاغةً واختصارًا وتعبيرًا عمّا دفع اللبنانيين إلى الشارع بعدما نزعت عنهم صفة المتظاهرين الذين يسعون إلى تحقيق مطالب محدّدة، وحوّلتهم إلى مُنتفضين يستردّون حقوقهم المُغتصبة
ممّا لا شكّ فيه أنّ الثورة حقّقت منذ انطلاقتها الأولى وحتّى اليوم انجازاتٍ كثيرة ومتنوّعة، قد لا يكون ما تحقّق سياسيًّا أهمّها. ورغم أنّ هذه الانجازات لم تعد خافيةً على الرأي العام عمومًا، لا بدّ من الإشارة إلى أبرزها، وخصوصًا تلك التي أخافت الطبقة السياسيّة وأربكتها أكثر من إسقاط حكومة، وتعطيل انعقاد جلسة مجلس النواب لمرّتين متتاليتين، أو فرض دفع فواتير الخلوي بالعملة اللبنانيّة عوضًا عن الدولار الأميركي على سبيل المثال لا الحصر. لقد استعاد المواطنون ثقتهم بأنفسهم وأدركوا أنّ لديهم صوتًا مؤثّرًاغير ذاك الذي يُسقطونه في صندوق الانتخاب لصالح زعماء الطوائف. لقد سقطت مقولة ”شو طالع بإيدنا“ كما سقط مشهد ”الغنم“ الذي يُساق إلى قدره، وحلّت مكانهما صورة شعبٍ يؤمن بأن لديه القدرة على استعادة حقوقه المسلوبة. وحّدت الثورة الساحات من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب مرورًا ببيروت ووصولًا إلى البقاع. سقطت الحواجز النفسيّة وزال الخوف من المواطن الآخرالذي أصبح شريكًا في بناء الوطن الجديد. لعلّها المرّة الأولى، بعد مرور ثلاثين عامًا على انتهاء الحرب اللبنانيّة، التي سقطت فيها الحواجز فعلًا لا قولًا. أصبحت المناطق والساحات تُسمى بأسمائها بعدما كانت تُعرّف بـ”مناطقهم“ و”مناطقنا“. عادت بيروت عاصمةً جامعةً غير مُقسّمة بين ”شرقيّة“ و ”غربيّة“، هذا التقسيم الذي انتجته الحرب ولم يلفظه السلم، بل ظلّ قائمًا في القاموس الشعبي اللبنانيّ وراسخًا في الذاكرة. تعارف الناس فيما بينهم في الساحات. تحدّثوا وناقشوا، سُمعوا واستمعوا وهو ما لم يحصل منذ انتهاء الحرب، ولو حصل لما آل حال البلاد إلى ما كان عليه حتى 17 تشرين الأول. شكّل التواصل الإنساني والاجتماعي إحدى علامات هذه الثورة الفارقة. الناس كلّ الناس من مختلف الأعمار والأجناس والانتماءات الطائفية والمذهبية والطبقية وحتّى السياسيّة التقوا وهتفوا ضد السلطة الفاسدة، وهنا بيت القصيد. تلك هي اللحمة التي أخافت السلطة وجعلتها مربكة وعاجزة عن التصرّف. مشهد لم تعتد عليه، مشهد نذرت حياتها السياسيّة لبناء نقيضه، مشهد اتّحدت بكلّ مكوّناتها المتنافرة والمتضاربة  للحؤول دون تشكّله في الوعي الجماعي لصالح تعزيز الخلاف بين مكونات المجتمع على أسسٍ طائفيّة ومذهبيّة ضيّقة. لا يخيف السلطة السياسيّة إسقاط حكومة في الشارع على أهميته، ولا يعيقها تعطيل مجلس النواب في جلستين متتاليتين رغم استثنائيّة هذا الفعل ورمزيته. لديها فائض من الدهاء والخبث والإنكار للتعامل ما هذه الوقائع كأنها تحصل في كوكب آخر. وليس التأخر في تشكيل الحكومة سوى دليل ساطع على ذلك. ولكن ما يخيف السلطة السياسيّة فعلا هو اجتماع اللبنانيين من مختلف الأطياف تحت راية العلم اللبناني وعلى وقع هتاف واحد: ثورة، ثورة، ثورة
أخطأت السلطة وأمعنت في ارتكاب الأخطاء(راجع المقال السابق)، ولكن ماذا عن الثوّار، ألم يُخطئوا أيضًأ؟ لقد فعلوا ذلك من دون شك، وهذا طبيعيّ وبديهيّ ويحصل في كلّ التحرّكات الشعبية أيًّا كان حجمها وأيًّا كانت أهدافها. ولكن من المجحف بحق الثورة والثّوار مقارنة أخطائهم بأخطاء السلطة، وأيّ محاولةٍ لوضعهم على قدم المساواة على هذا المستوى أنمّا يهدف إلى الحطّ من قدر الثورة وإجهاضها. فالثورة في صورتها الراهنة حالة شعبيّة غير مُنظّمة ضمن أطر كلاسيكيّة، لا قائد لها ولا ”مجلس قياديّ“ و”لا ضباط أحرار“… تلك هي أبرز نقاط قوتها وضعفها في آن: قوية لأنّها جامعة من دون غطاءٍ حزبيّ أو طائفيّ أو سياسيّ يُسيّرها وفق أهوائه، وضعيفة لأنّ القدرة على اختراقها في مثل هذه الحالات تصبح مرتفعة ومتاحة. ثمّة خطر آخر مرتبطٌ باحتمال أن تفقد الثورة زخمها بعدما يُصاب المنتفضون باليأس فيتراجع حماسهم، وهو ما لا يحصل عادة حين تكون الثورة بقيادة حزبية تملك دائمًا أدوات اشعال الشارع ومدّه بمقومات الصمود. ولكن السلطة، مشكورةً هنا، قامت بدور الأحزاب. فبقدر ما راهنت على تعب المنتفضين ويأسهم بقدر ما كانت تمدّهم بأسباب جديدة تدفعهم إلى عدم مغادرة الساحات. كانت تشدّ عصبهم باستعلائها وتكبرّها وتجاهلها لما يجري من حولها. انطلاقًا من خصوصية الثورة اللبنانية، من المجحف الحديث عن أخطاء، بل هي هفوات قد يؤدي تجاهلها أو انكارها إلى الإضرار بالثورة ويحوّلها إلى أخطاء قاتلة وخصوصًا أن المتربصين بها كثر والمتضررين منها يسعون إلى اسقاطها ولا يوفرون مناسبة لذلك
يخطئ المنتفضون إذا ظنّوا أن العالم الخارجي سيقف متفرجًا عليهم، وأن جلّ ما سيفعله هو التصفيق لهم إعجابًا ودهشةً بخروجهم من كلّ العباءات الطائفيّة والمذهبيّة التي ارتدوها لأعوام خلت. ويخطئون أكثر إذا ظنّوا أن لبنان يغرد خارج محيطه ومحيّد عن كل الصراعات المحيطة ، وأن السلطة أو بالاحرى حزب الله حصرا هو الذي أدخله في لعبة المحاور، وأنّه في حال  تمّ القضاء على هذه السلطة، سيعود لبنان كما درسناه في كتب التاريخ والجغرافبا واحة الحريات وقبلة الشرق…لذا، من الخطأ أن ينتفض المنتفضون كلّما سمعوا ان هناك جهات خارجية تستفيد او ستستفيد من هذه الثورة وتسعى الى توظيفها لمصلحتها. الملاحظة ليست تهمة بل حقيقة يجب عدم الاستهانة بها
يخطئ المنتفضون حين يقلّلون من أهمية وجود متسلقين يحاولون استثمار الثورة وتجييرنجاحاتها لغايات خاصة ومحدّدة. ويخطئون أكثر إذا اكتفوا بالقول ”لن نسمح لهم“ ومضوا كأن شيئا لم يكن. وهنا بعض الأمثلة السريعة: شعار نزع سلاح حزب الله، ليس شعارًا جامعًا بل شعار رفعه متسلّقون بإيعاز من جهات خارجية. وللتوضيح، فان تعبير متسلّق فضفاض ولا يقتصر على بعض أحزاب السلطة ومنها القوات اللبنانيّة، والحزب التقدمي الاشتراكي، وحزب الكتائب، وتيار المستقبل، بل يشمل نسبةً لا بأس بها ممن ينضوون تحت لواء المجتمع المدني أو المنظمات غير الحكومية. لا يمكن تجاهل هذه الشعارات واعتبارها ناتجة عن أفراد لا يمثلون سوى أنفسهم  ذلك أن رفعها أكثر من مرّة وفي غير مناسبة أخرج الجمهورالمؤيد للمقاومة من الساحات. والجمهور المؤيد مرّةً جديدةً هو غير الجمهور المحازب
يخطئ المنتفضون حين يسمحون بالتصويب على منصب رئاسة الجمهورية وعلى الرئيس ميشال عون. إذ أنّ هذا التصويب أظهر وكأن المشكلة هي مع هذا العهد ومع رئيسه الذي تقع على عاتقه مسؤولية الهدر والفساد دون سواه. ولا يكفي رفع شعار ”كلن يعني كلن“ لإزالة تهمة التصويب على شخص الرئيس على اعتبار أنّه جزء من الكل. فادعاء البراءة هنا غير مُستحب. إنّ الأضرار الناتجة عن استهداف الرئيس ميشال عون وتحقيره تارة بالحديث عن هروبه بثياب النوم في 13 تشرين 1989 وطورا بمناداته ”ميشو“، استفز العونيين، ودفع بهم الى الخروج من ساحات الانتفاضة. والعونيون هنا، هم غير المحازبين في ”التيّار الوطني الحر“. وهكذا خسرالمنتفضون كتلة ثانية لا يستهان بحجمها انسحبت من الساحات وأصبحت ضد الثورة. يضاف إلى هؤلاء، أولئك الذين يرفضون المسّ بالمنصب الأول على اعتباره خطّ الدفاع الأخير للطائفة المارونيّة
أخطا المنتفضون حين قطعوا الطرقات فور انتهاء مقابلة الرئيس عون وادعوا أن هذا العمل  غير مدبّر أو مقرّر سلفا. كما أخطأوا حين تظاهروا في محيط قصر بعبدا وطالبوا باسقاط الرئيس، فبدا المشهد شعبويًا ويوحي بالفوضى العارمة. وكأن كل الوعي الذي تمتّع به المنتفضون خلال الأيام الأولى من الثورة قد تبدّد، أو لعلّها من أفعال المتسلقين الذي يسعون الى تصفية حسابات سياسية مع الرئيس عون. قد لا يعجب هذا الكلام الكثرين، ولهم نوجّه السؤال: ماذا يعني اسقاط الرئاسة الأولى بعد اسقاط الحكومة؟ الفوضى؟ أم أنّ ثمّة بديل جاهز تحت الطاولة سيملأ الفراغ فور حصوله؟! والقول بأنّ البلاد سبق أن عاشت فراغًا رئاسيًّا ولم تتأثر، هو دليل سذاجة سياسيّة ولا يبشر بالخير. ليس دفاعا عن الرئيس، بل دفاعًا عن الأهداف التي لأجلها اندلعت الثورة والتي يحرّفها التصويب على منصب الرئاسة الأولى عن مسارها. أليس ملفتًا أن ثمّة شخصيّات سياسية نالت حصّة الأسد من التهشيم على حساب شخصيات أخرى بدت وكأنها لم ترتكب سوى بعض الجنح عبر تاريخها السياسي الطويل؟ ثمة طرفة قد تشرح الواقع أفضل من أيّ مثال. كان أميركيّ يحدّث روسيّا عن الديموقراطية في بلاده، وأعطاه مثالًا على ذلك أن بامكانه الوقوف تحت تمثال الحرية وشتم الرئيس الاميركي، فسارع الروسي إلى التأكيد أنّ بلاده لا تقلّ احترامًا للحريات عن الولايات المتحدة الاميركيّة إذ بامكان أيّ مواطن روسي أن يشتم الرئيس الأميركي في الساحة الحمراء في موسكو. الطرفة برسم سميرجعجع وبشري، ووليد جنبلاط وساحات الشوف، وسليمان فرنجيّة وزغرتا، وحزب الكتائب والأشرفية
ينزلق المنتفضون أحيانًا باتجاه خطاب التخوين، وكلّ انتقادٍ أو ملاحظة أو لفت نظرأو تساؤل يضع صاحبه في خانة المشكوك في أمره. أيّ اعتراضٍ على قطع الطرقات أوالأشارة إلى أن أطرافا سياسيّة هي التي تعمد إلى ذلك لغايات خاصة تضع المعترض في خانة عدو الثورة، هذا مثال من عشرات الامثلة التي جعلت البعض يشعرون أنهم يتعرضون إلى فحص دم ثوري مع كلّ كلمة ينطقون بها
أخيرًا وليس آخرا، مصيبة الفايسبوك والفبركة التي يُتقنها كلا الطرفين أعداء الثورة ومناصريها، إلى التنافس في اطلاق النكات السمجة أحيانًا، أو السباب والشتائم التي تجاوزت كلّ الحدود الأخلاقيّة، أصبح ذلك مهنة قائمة بذاتها والشكوى لغير مارك زوكريبرغ، سامحه الله، مذلّة

 

 

 

فكرة واحدة بشأن "وفي اليوم الـ33: أين أصاب المنتفضون وأين أخطأوا"

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s