وفي اليوم الثلاثين: أخطاء السلطة بالجملة والمفرق

435

قبل شهرٍ من اليوم تمامًا، كان السواد الأعظم من المواطنين يُديرون يوميّاتهم على إيقاع الشكوى من الأوضاع العامة في البلاد: يذهبون إلى أعمالهم ويشكون رواتبهم المتدنّية. يعودون إلى البيت ويتذمّرون من انقطاع التيّار الكهربائيّ، ومياه الشفة، وتلوّث الهواء وروائح النفايات التي تختنق بها الأجواء كلمّا هبّت نسمة. يخرجون لتناول العشاء ويثرثرون حول سوء أحوالهم النفسيّة. يرقصون ويغنّون ويسكرون ويقولون إنهم يفعلون ذلك كالطائرمذبوحًا من الألم. يتناولون المهدّئات والمسكّنات ويستأنفون دورة يوميّاتهم الممّلة معلنين استقالتهم من الوطن واستقالة الوطن منهم

قبل شهرٍ من اليوم تمامًا، كان السواد الأعظم من المواطنين غارقين في هواتفهم يسخّرون وسائل التواصل الاجتماعي لاستعراض حياتهم على الملأ: ماذا أكلوا، وماذ شربوا، وأين سهروا، وأي ملابس اشتروا… وقد  يطلقون بين الفينة والأخرى موقفًا من هنا أو تعليقًا من هناك يخصّ شأنًا عامًا،أو قد يعترضون على تصريحٍ أو موقفٍ أو انتخاباتٍ أو…الخ كانوا، باختصارٍ يثورون افتراضيًّا، ثمّ يعودون إلى وتيرة الـ”نق” اليوميّ التي شكّلت جزءًا من روتينهم الممل

قبل شهرٍ من اليوم تمامًا، كان السواد الأعظم من المواطنين يهلّلون لكلّ ثورةٍ تنطلق في أيّ بلدٍ مجاورٍأو بعيد. يتماهون معها، يُناصرون أبناءها، يشدّون على أياديهم، يُحيّونهم، يرفعون شعاراتهم تعبيرًا عن تعاطفهم، يكتبون فصولًا من نضالاتهم على صفحات التواصل الاجتماعي، كأنّهم عاجزون أن يفعلوا مثلهم

قبل شهرٍ من اليوم تمامًا، تداعت مجموعة من الشبان والشابات للتظاهر في ساحة رياض الصلح اعتراضًا على زيادة 6 دولارات على فاتورة الواتساب. بدت الدعوة أشبه بدعابة سمجة، أحدثت زحمة سيرٍ خانقة، وقد فاق عديد القوى الأمنية التي حاصرت نقطة التجمّع أعداد المتظاهرين. لم تمضِ ساعات قليلة حتّى انقلبت الصورة إلى نقيضها. نزل المواطنون إلى الشوارع، أحرقوا الدواليب، اعترضوا وهتفوا وصرخوا. علت أصوات من هنا ومن هناك تنتقد الشعب الذي لم تحركه كلّ الأزمات المعيشيّة والاقتصادية إلّا عندما شعر أن فاتورة هاتفه مهدّدة.  لم يتوقّع أكثر المتفائلين صمود هذا التحرّك لما يزيد عن أربعٍ وعشرين ساعة كما لو يتوقّع أن يتجاوزعدد المشاركين فيه بضع مئات. لم يصدّق المواطنون أنفسهم أن ثمّة تحرّكًا حقيقيًّا وجديًّا وأنّ عليهم أن يشاركوا فيه ويكونوا جزءًا منه. لم يطل التردّد وسرعان ما امتلأت الساحات على مدى اليومين المتتاليين لانطلاق الشرارة الأولى. الأعداد إلى ازدياد، وكذلك الساحات التي لم تعد محصورة في بيروت، بل امتدت شمالًا وجنوبا وبقاعًا. وجاء اليوم الرابع، أي نهار الأحد الذي كان استثنائيا في حشوده. تجاوزمشهد الساحات كلّ المعايير والحسابات وبدت كلّ القراءات والتحليلات عاجزة عن استعيابه. الناس متفاجئون بقدرتهم، والسلطة مربكة لا تعرف كيف تتعاطى مع حالة لم تصادف مثيلها خلال العقود الثلاثة الماضية. كانت معظم التوقّعات تشير إلى أنّ صمود المنتفضين أسبوعًا كاملًا في الشارع، سيشكّل انجازًا كبيرًا ويفرض معادلات جديدة في المشهد السياسي المحلي. لكن السلطة دافعت بكلّ شراسة عن وجودها. رفضت تقديم تنازلاتٍ كان يمكن أن تساعد في لملمة الشارع سريعًا. حسنًا فعلت لأنها خدمت المنتفضين وزادتهم عزمًا على الاستمرار قدما في تدمير الهيكل على من فيه. لم يكن هذا الخطأ الوحيد الذي ارتكبته السلطة بمختلف أطيافها، بل جاءت قائمة الأخطاء طويلة هنا أبرزها

أخطأ رئيس الحكومة سعد الحريري حين طلب مهلة 72 ساعة (من شركائه في الحكم وليس من المنتفضين) ليخرج بعدها بما أسماه ورقة إصلاحية كشفت إصرار السلطة على الاستخفاف بالناس وبمطالبهم وبتمرير مشاريع تعزّز سياسة تقاسم الجبنة (مشروعي إليسار ولينور، خصخصة الخلوي، قانون العفو العام…) ثم أخطأ الحريري ثانيةً حين قدّم استقالته، وخصوصًا أنّه لم يفعل ذلك تحت ضغط الشارع، بل حاول استغلال الشارع المنتفض خدمةً لمصالحه. ظنّ الحريري أنّ بامكانه استنفارالسنّة ليطالبوا بإعادة تكليفه لتشكيل حكومة يفرض فيها شروطه، بعدما كان مغلوبًا على أمره ومقيّدًا في الحكومة المستقيلة. كاد أن ينجح في ذلك، ولكن المنتفضين كانوا بالمرصاد ونجحوا في عزل هذه المحاولة ووأدها سريعًأ

أخطا أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله  حين خوّن المنتفضين وطلب من مؤيدي الحزب ومناصريه الخروج من الشارع. السيّد نصرالله الذي يتمتّع ببعد نظرٍ وذكاءٍ حادّ، والذي تخيف حركة إصبعه الإسرائيليين وتجعلهم يبيتون في الملاجئ، فشل في مخاطبة اللبنانيين المنتفضين في الساحات. كان بإمكانه أن يحتضن الشارع بدلًا من أن يخونّه. ذلك أن حاجة المقاومة لغطاءٍ سياسيّ لا تبّرر القبول بسلطة فاسدة ومشاركتها نظام المحاصصة. لقد فوّت حزب الله فرصة ذهبيّة في استمالة الشارع من خلال تبنّي مطالبه، وذهب عوضًا عن ذلك للحديث عن مؤامرة تحرك المنتفضين، فأضاف إلى خسائره الشعبيّة خسارة جديدة. لا يمكن لجائع أن يقاوم، كما لا يمكن لمن يشعر بالإهانة اليوميّة من سلطته أن يواجه أيّ سلطة خارجيّة حتّى ولو كانت عدّوة. قال السيّد نصرالله أنّه في حال نزل حزب الله إلى الساحات، فلن يغادرها. قال ناس الساحات للسيّد وللسلطة مجتعمةً أنّهم لم يغادروا ولن يغادروا. خسر السيّد نصرالله من رصيده الشعبي في إطلالته الثانية وهو ما لم يستطع أن يعوّضه في إطلالته التصحيحيّة (اذا صح التعبير) الثالثة. وخسر حزب الله كحزب مقاوم قسمًا جديدًا من الخط الدفاعيّ الشعبيّ له، وليس المقصود هنا محازبيه بل عموم الناس الذين يتقاطعون مع الحزب في حربه ضد اسرائيل ويختلفون معه في القضايا الأخرى

أخطا رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في كلّ اطلالاته المُصوّرة والمباشرة. أخطأ لأنّه استخدم الشارع ليوجّه رسائل إلى أخصامه السياسيين، في وقت كان المطلوب منه التوجّه إلى الشعب والشعب فقط، ليس انطلاقًا من أنّه”بيّ الكل“، الشعارغير الموفق الذي رفعه العهد، بل لأنّه رئيس كلّ لبنان وليس التيار الوطني الحرّ أو العونيين.  أمّا الخطأ القاتل الذي ارتكبه الرئيس عون وفريقه الإعلامي، فكان في اجراء مقابلة لم يحمل فيها أيّ جديد يقدّمه إلى اللبنانيين بعد ثلاثة أسابيع من نزولهم إلى الساحات والإقامة فيها، ومرورعشرة أيام على استقالة الحكومة من دون البدء بالاستشارات النيابيّة لتشكيل حكومة جديدة

أخطأ رئيس التيار الوطني الحر، وزير الخارجيّة جبران باسيل في تسيير تظاهرة إلى قصر بعبدا دعمًا للرئيس عون ممّا أوحى أنّ المعركة هي بين من هم مع العهد ومن هم ضدّه. ولا يبرّر رفع بعض المتظاهرين شعارات ضد الرئيس، وهي شعارات مرفوضة ولا تشكل أساس التحرك ولا تصب في خدمة مصلحته أصلًا، أن يأتي ردّ التيّار تسيير تظاهرة دعم  إلى بعبدا يترأسها باسيل الذي يخاطب الناس بفوقيّة وتكبّر مستفزين

أخطأ محازبو التيار وحزب الله حين انكفأوا عن المشاركة في الثورة، وساهموا من حيث يدرون أو لا يدرون في الايحاء بأنّ حركة الشارع موجّهة ضد حزبيهما. بدت القوات اللبنانيّة والحزب التقدمي الاشتراكي أكثر دهاءً على هذا المستوى، بعد أن حشد هذان الحزبان أنصارهما في الساحات بصفة مواطنيني متضررين من سياسات الحكومات المتعاقبة التجويعيّة. لا أحد ينكر حق أي مواطن لبناني أيًّا كان انتماؤه السياسي من النزول إلى الشارع والتعبير عن رفضه نهب المال العام والمطالبة باعطائه ابسط حقوقه في العيش الكريم. لكن بين المشاركة والتسلّق فرق شاسع يعرفه الحزب التقدمي الاشتراكي وتتقن فنونه القوات اللبنانية استغلالًا وتوظيفًا. هنا أيضًا يكمن الفرق بين الخبث السياسي (القوات – الاشتراكي) وبين الادعاء والتعالي والسذاجة أحيانًا (التيار – حزب الله

أخطأت السلطة مجتمعةً حين اعتبرت أن المطالبة بقادة أو متحدّثين باسم الحراك (ترفض أن تسمّيها ثورة وهذا خطا آخر) بحجّة محاورتهم سيلقى آذانًا صاغية لدى المنتفضين.  وممّا لا شكّ فيه أن الوعي السياسي الذي ابداه الشارع في التعامل مع السلطة قد فاجأها  فعلا، كما أخطأت السلطة مجتمعةً حين اعتمدت سياسة النعامة مدّعيةً أنّها لا تعرف ما هي مطالب المنتفضين وتحتاج إلى من يحدّدها لها، ولكنّها أبدت، في المقابل، معرفةً تامّةً بالشعارات التي رُفعت ضد العهد حصرًا أو ضد المقاومة أو بتلك التي طالبت بنزع سلاح حزب الله. هو الخطأ نفسه في الادعاء بأنّ ما يُكتب من مطالب على وسائل التواصل الاجتماعي ليس مرجعًا صالحًا للاعتماد عليه، ولكنّه كافٍ لأن يُجرّم كلّ من يكتب ضدهم بتهمة القدح والذم أو تعريض الأمن القومي للخطر

أخطأت السلطة في السكوت عن اقفال المصارف نحو شهر كامل والادعاء أن من شأن ذلك حماية الليرة وتثبيت سعر صرفها مقابل الدولار. وأخطأت أكثر حين أدعت أنّها تحاول حماية الموظفين من تنمّر المودعين. وأخطأت أكثر فأكثر في استخدام اقفال المصارف للضغط على المنتفضين والايحاء بأنّهم السبب في الانهيار الاقتصادي الحاصل في البلاد

  أخطأت السلطة مجتمعةً أو منفصلةً في كلّ موقفٍ اتخذته منذ 17 تشرين الاول وحتّى اليوم وكانت في كلّ ما تقول أو تفعل تخسر من رصيدها وتزيد من رصيد الثورة. لم يكن يحتاج المنتفضون لأكثر من انتخابات نقابة المحامين دليلًا إضافيًّا على أنّ السلطة تتّحد من أجل تأمين مصالحها

أين أخطأت الثورة وأين أصابت ، عنوان الحلقة الثانية

فكرة واحدة بشأن "وفي اليوم الثلاثين: أخطاء السلطة بالجملة والمفرق"

  1. اخطاء السلطة كثيرة كثيرة وقد عدّدتها وفنّتدها بدقة ولكنك يا جنى لم تشيري الى حجم الفساد الهائل الذي يتكشف يومًا بعد يوم فيحافظ على حيوية الثورة ويشدّ عضد الثوار(على اساس ان الفساد وتشعباته بات معروفًا)!
    انتظر الحلقة الثانية على أحرّ من الجمر…😂

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s