يبدو أن داءً جديدًا قد أصاب اللبنانيين اسمه داء الدهشة. كلّ ما يجري من حولهم يدهشهم بشكل قبليّ وجماعيّ مهما بدا أمرًا عاديّا أو تافهًا. وأغرب ما في داء الدهشة أنه يتفاعل ويتكاثر بشكلٍ جنونيّ مع مسائل مكرّرة على مدى عقودٍ من الزمن. يقف المصابون بهذا الداء عند حدود الدهشة التي يبدو أنها تعطّل كلّ أنواع الانفعالات والتفاعلات الأخرى. دهشة فقط لا غير يقتصر فيها التنويع على السلّم التصاعديّ لهذا الشعور. يُعيد اللبنانيون انتاج قضاياهم التي تتكرّر بشكلٍ مُضجرٍ وسمجٍ ومن ثمّ يندهشون لها، ويندهشون لمن لا يندهش معهم أو يندهش من اندهاشهم. أمّا من يُطالبهم بتخطي الدهشة نحو رد فعل عمليّ فهو برأيهم مُنظّر ولا يصلح لأن يكون مواطنًا لبنانيًّا صالحًا وخصوصًا أنه يُعاني من نقصٍ حادٍ في الدهشة
ما زال اللبنانيون يندهشون لانقطاع التيار الكهربائي مثلا . يندهشون كأن ذلك الانقطاع الذي يحدث منذ ان انطلقت الحرب اللبنانية في العام ١٩٧٥، إنما يحدث للمرّة الأولى ويعكّر لهم صفاء يوميّاتهم. يندهشون فحسب. وزيرة الطاقة ندى البستاني نفسها مندهشة إلى حد أنها تكبّدت عناء الإعلان عن أن ساعات التقنين ستزيد خلال فصل الصيف. لا جديد في الموضوع يستدعي الإعلان، ولكانت دهشتها ودهشة اللبنانيين مبرّرة بل مطلوبة بشدّة لو حصل العكس، أي عودة التيار الكهربائيّ إلى أرجاء الوطن السعيد بعد طول غياب، لا قدّر الله
ما زال اللبنانيون يندهشون أنهم يعيشون في بلدٍ طائفيّ أشعل عبر تاريخهم الحديث والقديم حروبًا أهليّة طويلة. اندهشوا إلى حدٍ بدا معه أن كل رصيد الدهشة عندهم قد نضب عندما علموا أن رئيس بلدية الحدث رفض تأجير مسلمين في بلدته. ورغم أن الدهشة هنا تتّخذ فعل التصويب السياسي، ولكنها دهشة مدهشة فعلا. ليس دفاعًا عن رئيس بلدية الحدث ولا تبريرًا لما أقدم عليه، بل لأن هذه الحادثة تحديدًا تكرّرت في المنطقة عينها قبل عقد من الزمن . وما حدث في الحدث يحدث كلّ يومٍ في غير منطقة وبلدة لبنانيّة من دون تعداد أسماء المناطق والأحياء حتى لو بدا ذلك غير مهنيّ، ولكن تجنّبًا لسقوط مزيدٍ من ضحايا الدهشة
ما زال اللبنانيون يندهشون أن بحرهم ملوّث. ويكاد يُغمى عليهم من شدّة الدهشة معتبرين أنّ في الأمر مؤامرة لضرب موسم السياحة في لبنان. وحين تختلط الدهشة بالمؤامرة، فهي تخرج ألطف النكات وأطرفها من جعبة اللبنانيين. يندهشون رغم انهم يدركون أن مجارير الصرف الصحي تصبّ في بحر بيروت. ويندهشون رغم أنهم يُدركون أن بحر العاصمة محاصرٌ بمكبيّ نفايات من كبار المكبّات (الكرنتينا شمالًا والكوستا برافا جنوبًا). وبحر بيروت هو على سبيل المثال لا الحصر، إذ لكل منطقة ساحلية خصوصيتها في التلوث البحري وتستدرج أنماطًا أخرى من الدهشة الموصوفة
ما زال اللبنانيون يندهشون من فساد السلطة السياسيّة، ويندهشون من تربّع الشخصيّات السياسيّة نفسها على عرش السلطة منذ تاريخ لم يعد يذكرونه. يندهشون إلى حدٍ ينسون أنهم يجدّدون لهذه السلطة في كلّ موسمٍ انتخابيّ. ولا عتب عليهم لأن الدهشة في نسختها اللبنانيّة تعطّل كلّ الحواس الأخرى وتجدّد نفسها بشكل تلقائيّ
ما زال اللبنانيون يندهشون وقائمة الدهشة لديهم طويلة وطويلة جدا. يستيقظون مدهوشين وينامون أكثر دهشة ويفرّغون دهشتهم على صفحات التواصل الاجتماعي من دون أن تدهشهم قدرتهم على التفاعل مع أحداث تعاني من اجترارٍ مملٍ ومقيت. وهكذا دواليك. وبين الدهشة والدهشة يفاجئونك باندهاشهم من عنصريتهم. يمارسون عنصريتهم منذ فجر التاريخ، منذ أن قرروا أنهم متفوقون على محيطهم، ومنذ أن منّنوا العالم أنهم صدّروا الحرف، ومنذ أن استقدموا العمال والعمالات الاجانب وتفنّنوا في تسخيرهم لخدمتهم ، ومنذ أن طاردوا العمّال السوريين في الأحراش عشية ما أطلقوا عليه اسم ”ثورة الأرز“ لأنهم سوريون ويحملون نفس جنسيّة النظام الذي أذلهم على مدى عقود. يندهشون من مؤسسات تطلب توظيف لبنانيين فقط إلى حد تظن أن لبنان هو مهد الأمميّة. وبعض المندهشين استطرادًا هم ممن حاربوا العمالة السورية في زمن آخر، (والانفصام في الشخصيّة مرض آخر يعاني منهم اللبنانيون وشرحه يطول). يندهشون من عنصرية صادرة عن وزير خارجيّة ”العهد القويّ“ ربّما لأنه تفوّق عليهم في التعبير عن عنصريته . بلد مدهش وشعب أكثر إدهاشا. عشتم وعاشت الدهشة مادة نجتر بها، نحن اللبنانيين، يومياتنا البائسة
.