إدمون صعب: أخذ معه المهنة ورحل

img_1304

احتجت يومًا كاملًا لاستيعاب خبر رحيلك، وقد احتاج وقتًا أطول بكثير يعادل ما تبقى من العمر لأصدّقه، ولن أصدّقه كماهو الحال مع  الأحباء، أحباء القلب الذين رحلوا. أقنع نفسي أنهم ما زالوا موجودين في هذه الدنيا. أرقام هواتفهم محفوظة في هاتفي. مواقفهم ، أقوالهم، ردّات فعلهم وصورهم مطبوعة في الذاكرة . وحده الكسل حال دون أن نتواصل إستاذ إدمون. أقول غدًا نلتقي. ويحملني الغد إلى اليوم الذي يليه، وهكذا من دون أن نلتقي. لعلّني كنت أخشى اللقاء. لم أرغب لقاء إدمون صعب على غير الصورة التي عرفته عليها. قويًا صلبًا مُجادلا وأستاذا أصيلًا في مهنة الصحافة التي خسرت الكثير من قوامها وما تزال تخسر مع رحيل الكبار الذين لا ورثة مهنيين لهم. أجلت اللقاء، وكأني بذلك أمد بعمر إدمون. لم أرغب أن ألقاه وكأنني أودّعه. أردت أن أعطيه مساحة من الوقت كي يستعيد عافيته. لم يكن الكسل هو الذي منعني هذه المرة من الاتصال، بل هو الجبن من مواجهة صورة شخص على غير حقيقته، شخص نال منه المرض ثم انتصر عليه على غفلة منا وليس منه، لأنه صارع وتألم وجاهد قبل أن يعلن استسلامه. لم يعد بامكانه انتظاري أكثر من ذلك، ولَم يكن بإمكاني أن أراه في ضعفه . تعذّر اللقاء، وتضاعفت الغصة والألم والندم . لم أفكّر يومًا في رثاء إدمون صعب. لم أجرِ هذا التمرين الصعب ولا حتى حين علمت أن حالته الصحية في أصعب مراحلها. لم أجرؤ على ذلك، لأن على الاحباء ألّا يرحلوا وخصوصًا إذا كانوا من صنف الكبار الذين نرى أن وجودهم حاجة دائمة لا تنتهي. رغم كل ذلك رحل إدمون صعب
تعرّفت على إدمون صعب في العام ١٩٩٧. لم يكن اللقاء وديًّا، ولكن الحاجة إلى العمل أولًا والانضمام إلى جريدة ”النهار“ الذي كنا نعتبره معمودية المهنة ثانيًا (كنّا وكان)، جعلاني أرضى بكلّ عدم الود الذي حصل في اللقاء. كان ادمون يبحث عن مديرة لمكتبه (التعبير له) ، وأرادها صحافيّة تتحدث اللغتين الفرنسيّة والإنكليزية إلى العربيّة. تحرّى عني في ”ملحق النهار“ الذي كان يرأس تحريره حينذاك الياس خوري  وكنت أكتب فيه بانتظام أسبوعي. قرأ بعضًا ممّا كتبت، ورغم ذلك حين اطلع على سيرتي الذاتيّة التي تشير إلى عشرة  أعوام خبرة في الصحافة كنت أتباهى بها نظر إليّ وقال لي: ”هلقد مغيرة محلات شغل ب ١٠ سنين !“. كانت هذه العبارة الهازئة أول درس تعلّمته من الاستاذ إدمون . الانتقال من مكانٍ إلى آخر في العمل وعدم الثبات في مؤسسة واحدة ليس دليل عافية

لم تتجاوز إدارة مكتب مدير التحرير التنفيذي في صحيفة ”النهار“ شؤون السكريتريا، الأمر الذي أحبطني بشدّة، وجعلني أفكر في الاستقالة حتى لو أن ذلك سيجعلني أخسر فرصة العمل في ”النهار“. احتجت إلى وقت طويل نسبيًا لأرى الأمر من منظارٍ مختلفٍ وأدرك أنّ التواجد مع شخصٍ من أمثال أدمون صعب في مكتبٍ واحدٍ، لا بدّ أن يعلّمك الكثير من دون أن تدري . لم يكن العمل مع إدمون صعب سهلًا وخصوصًا أنه ليس من النوع الذي يوزّع علامات إعجابٍ وتقديرٍ مجانيّة. يريد أن يكون العمل أيّ عمل أقوم به كاملًا ليس فيه شائبة  أو خطأ. وقاموس الشوائب والأخطاء عند إدمون صعب واسع ومتشعب ومضن. في المرّة الأولى التي فكّرت فيها تناول مُهدّىء للأعصاب كانت في مكتب إدمون صعب . ثمّ قلت لنفسي: سأستقيل. لن أحتمل المزيد. كان مدركًا تململي، ولكنه تجاهله كمن يريدني أن أصبح أكثر قوةً وصلابةً ولا أنهار عند أوّل مواجهة. كان يُمعن في استفزازي بغية تعليمي، إلى أن جاء اليوم الذي قال لي فيه بنبرة صوته الحادّة : ”جنى ، انت محلك مش ورا المكتب ، انت محلك بالشارع“ لم يقصد الطرد في عبارته هذه. ولكن هذا أسلوبه في التعليم . حاد وغير مهادن واستفزازي إلى أقصى الحدود. وأردف: “رح حاول لاقيلك محل بقسم المحليات”. هذا ما قاله لي. أمّا ما قاله للزملاء في قسم المحليات: رح ابعتلكن أحسن صحافيّة

هذا ادمون وهذا أسلوبه. إنه أشبه بالمدرسة الداخليّة لجهة النظام الصارم الذي لا يقبل الخطأ. انتظرت سنوات طويلة لأسمع منه مباشرةً اعجابًا في عملي في قسم التحقيقات. كان يصلني الثناء مواربة. لن تكفي الصفحات لأتحدث عن ثلاثة عشر عامًا من العمل في النهار(أقصي من الصحيفة قبل استقالتي بعام واحد) مع أدمون صعب. ولست، في أي حال،  ممن يعطون الشهادات بإدمون صعب ولكنني ممن يطمحون للحصول عليها منه ومن الكبار أمثاله . كانت آخر مرة التقيت فيها إدمون صعب واقعًا (لان اللقاءات الافتراضية عبر فايسبوك استمرت حتى نال منه المرض) في حفل توقيع روايتي الأولى ”النوم الابيض“. كان فخورا بي. كلامه ونظراته تنم عن حب كبير وإعجاب ودهشة. كان يردّد:” جنى من اكتشافي“. وكتب مُعلقّا على إحدى المقابلات التي أجريتها بشأن الرواية:”  نحبّك ونقدّرك لانك كاتبة صادقة، يا صاحبة النوم الأبيض الذي كشف موهبتك الروائية

شكرا لك استاذ إدمون لأنك  كنت بوابة عبوري إلى ”النهار“، ”النهار“ التي كانت مدرسة و أقفلت صفوفها تباعًا بعد أن تخلّت عن كبارها. شكرا لأنك علمتني الكثير. شكرا لأنك أتحت لي أن أمرّ في هذه الصحيفة في زمنك وزمن أنسي الحاج وغسان تويني والياس خوري والمدير فرنسوا عقل (أطال الله عمره) وجبران تويني الذي كان يؤمن بجيل الشباب ويغامر في فتح ابواب الصحيفة العريقة أمامه. شكرا لك لأن كنت صعبًا كما هو اسمك. وعذرا لأنني لم أتعلّم منك القدرة على مقابلة من أحب في مرضهم وضعفهم

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s