القاهرة هي التفاصيل ومتعة الغرق حتى القعر

لم أنجح يومًا في تحرير إجابة مُقنعة عن السبب الذي يدفع اللبنانيين عمومًا إلى التحدُّث باللهجة المصريّة إذا إلتقوا مواطنًا مصريًّا كما لم أنجح في تفسير السبب الذي يدفع المصريين إلى العمل حصرًا  في محطات الوقود في لبنان. ورغم أن لا علاقة تربط الأمرين ببعضهما، فإن هذين السؤالين متلازمين في رأسي، علمًا أن السؤال الأول يشغل بالي بوتيرة أعلى من الثاني بل أشعرأنني مُستفزة كلّما سمعت لبنانيًّا يتحدّث باللهجة المصريّة مع مواطن مصري، إذ  يبدو لي أحيانا كأنه يُترجم له من لغة أخرى وليس من لهجته اللبنانيّة إلى اللهجة المصريّة. قد يبدو الأمر ”منطقيًّا أو مُفسّرًا“ لمن يعتبر أن هناك لغةً لبنانيّة (وليس لهجة) قائمة بذاتها لا علاقة لها باللغة العربيّة! في أي حال، حرصت حرصًا شديدًا في زيارتي الأخيرة إلى القاهرة، على ألاّ أنطق سوى باللهجة اللبنانيّة التي، وللمفارقة، ظنّ المصريون بناءً عليها، أنني سوريّة. قد لا تشكّل هذه المقدمة مدخلًا مناسبًا للجزء الثاني من زيارتي إلى القاهرة، ولكنها ملاحظة على الهامش ظلّت تلح عليي طوال رحلتي من دون أن يشكّل إغراء التحدّث باللهجة المصريّة الذي انتابني أكثر من مرّة إجابةً شافية على تساؤلاتي

تفاجئك القاهرة بقدرتها على الصمود. هذا ما يقوله الزائرون وما لا يوافق عليه أهل البلد. الصمود صورة خارجيّة، أمّا الواقع فهو تراجعٌ وانهيارٌ مستمران، يقولون. وإذا حذفنا القاهرة ووضعنا مكانها بيروت، سيساعدنا ذلك من دون شك على فهم ما يعنيه المصريّون في اعتراضهم على فكرة الصمود. ولكن ذلك لا ينفي أن القاهرة تبقى جميلة ومميّزة  في عين الزائر- السائح وإن كان يشعر بنظرة استغرابٍ وأحيانا شفقة تعلو وجه محدّثه المصريّ كلّما استفاض الزائر مديحًا ببلاد الفراعنة. فكيف إذا كان الزائر المدهوش لبنانيّا (أحلى ناس، كما يصفهم المصريون)، عندها يشك المحدّث المصري في السلامة العقلية للزائر اللبناني أو يفترض في أحسن الأحوال أنه يسخر منه ومن بلاده. في أي حال، وبمعزل عن رأي المصريين وموقفهم، فإن البلد الذي ما يزال يُقيم اعتبارًا وازنًا للثقافة، هو بلد فيه الكثير من مقومات الصمود أو الأمل في انطلاقة جديدة. ففي القاهرة التي يزداد فيها الفقر والجوع، وتنخفض قيمة العملة الوطنية إلى أدنى مستوياتها (الدولار الأميركي يعادل 18 جنيهًا) تنتشر المكتبات بشكل لافت. كيفما سرت، وأينما تهت لا بدّ أن تصادفك عناوين كتب ومجلدات منها ما هو حديث، ومنها ما هو قديم، ومنها ما هو نادر. كتب على الأرصفة، وكتب في المكتبات التي حافظت على مفهوم المكتبة بمعناها العريق، أي مكتبة تناقش مع صاحبها أو العامل فيها عناوين الكتب. ينصحك بكتاب أو يطلعك على آخر اصدارات هذا الدار أو ذاك المؤلف. لذا، تبدو زيارة القاهرة من دون تمضية جزء من وقتك في مكتباتها، زيارة ناقصة على المستويين السياحي والفكري. استرجع المصريون عادة القراءة، قال لي صديق مصريّ، بنبرة لا تخلو من الشعور بالفخر في زمن أصبحت فيه القراءة من أفعال الماضي السحيق، وتابع قائلًا أن ثمة كتّابًا جددًا يحققون مبيعات لأعمالهم تلامس حدود الـ 200 ألف نسخة في السنة. والمقارنة مع عدد السكان هنا لا تبدو ذات دلالة، لأن فعل القراءة موضوع النقاش لا يتحدّث عن كلّ المصريين، بل عن جيل  الشباب والمتعلمين. ويبدو أن المصريين لا يقرأون فحسب، بل يتذوقون فنونًا أخرى. لذا، إذا قرّرت أن تحضر عرضًا في الأوبرا المصريّة عليك ان تحجز البطاقات باكرًا لأنها قد تنفذ سريعًا. يخال المرء أن حضور عرض في الأوبرا المصريّة، هو إمّا نخبويّ وإمّا سياحيّ. والمقصود بالسياحيّ أن الشركات التي تنظم رحلات سياحيّة إلى القاهرة، تحجز لزبائنها في الأوبرا من ضمن برنامج الرحلة. رغم صحّة الاحتمالين، فإن نسبة المصريين الذين يقصدون دار الأوبرا مرتفعة نسبّيا، وهم لا ينتمون بالضرورة إلى ”صفوة المجتمع“ ولا إلى أغنيائه حصرًا، وهو ما يمكن تحديده من لباسهم العادي والمتواضع، بل هم من عامة الشعب التي تتذوق الفن وتقدّره. وللفن في دار الاوبرا نكهة خاصة ومستوى عالميًّا وخصوصًا حين يكون العرض رقص باليه مع فرقة موسيقيّة حيّة ويحمل اسم ”كسارة البندق“. ساعتان من المتعة الخالصة. عرض باهر وآسر مع راقصين يوازون النجوم العالميين خفّة ورشاقة وحرفيّة عالية وجمهور متذوّق مسك أنفاسه طوال ساعتين قبل أن يشعل الصالة تصفيقًا حارًا.      ليست العروض الفنيّة محصورة في دار الاوبرا الذي مهما قصده المتواضعون والمحبّون للفنون الذين ربما يقتصدون طوال الشهر لحضور عرض فيه، تبقى سمته العامّة نخبويّة. العروض الفنيّة والمعارض متوفرة في القاهرة على مدار الأيام والأسابيع، ولو أراد الزائر أن يتابعها جميعها لما سعفه الوقت. فإذا أردت مثلًا أن تشاهد رقصة التنورة التي تُعرض في مسرح الغوري في شارع عبده المتفرّع من شارع الأزهر، عليك ان تحضر قبل ساعة ونصف الساعة من موعد العرض وتقف من صف طويل وزحمة خانقة بين المصريين الذين يتهافتون للحصول على بطاقة دخول. العرض ليس مجانيًا ورغم ذلك فإن الزحمة خانقة. والحضور ليس كلّه أجنبياً ولا هو سياحيّ محض، إذ امتلأت القاعة مناصفة بين السوّاح الأجانب وبين المواطنين المصريين الذين يدفعون ثمن بطاقة الدخول 5 جنيه مقابل 75 جنيه لغير المصري. الثقافة مدعومة في بلدٍ ترتفع فيه معدلات الفقر والبطالة ويعاني مشاكل إقتصادية جمّة، واستطرادًا فإن كل المتاحف والعروض الفنيّة والمرافق السياحيّة متاحة أمام المصريين بأسعار زهيدة، حتى تلك التي تحوّلت إدارتها من القطاع العام إلى القطاع الخاص مثل برج القاهرة. لم يكن الوصول إلى وكالة الغوري، وهذا هو اسم المكان، أمرًا سهلًا. ليس ما يشير إلى أن ثمة مبنىً تراثيّا في هذه الناحية يُستخدم للعروض الفنيّة. حتى عندما تسأل عن المكان ويدلّونك عليه بالبنان : هناك، تقول أن ثمة التباس. لعلّهم يشيرون إلى مكان آخر غير وكالة الغوري. ويعود سبب الانطباع إلى كميّة النفايات المُحيطة بالمكان والروائح الكريهة المنبعثة إلى القطط السارحة التي تعبث بالنفايات. تدرك أنّك وصلت إلى المكان المنشود بسبب الصف الطويل ممن سبقوك للحصول على بطاقة دخول. تقف بين الناس وتشعر أن العرض بدأ للتو. لعلّها من المرّات النادرة التي وقفت فيها في صف طويل لا أحد يحترم فيه دور الآخر، ولم أتذمر أو أعود ادراجي عازفة عن حضور العرض لأن الزحمة تشعرني بالاختناق الفعلي لا النظري. كنت فرحة بما يدور حولي. أراقب الناس وأستمع إلى أحاديثهم. أستمتع وأبتسم وأشعر مجددًا أنني في مشهد سينمائي بامتياز على خلفية موسيقيّة لأغنية محمد عبد المطلب”ساكن في حي السيدة وحبيبي ساكن في الحسين، وعشان أنول كل الرضى يوماتي أروحله مرتين“. في المناسبة، لا أدري لماذا كنت أدندن هذه الأغنية كلما انطلقت في رحلة مشي جديدة في شوارع القاهرة. سيّدة مُحجّبة تصرخ في رجل حاول أن يتجاوزها وتطالبه في احترام الدور، يحاول الردّ عليها، تحرجه، يتلعثم في الكلام ثم يتراجع إلى الخلف مطأطأ الرأس. ورغمة جديّة الموقف لم أنجح في تمالك نفسي من الضحك، ولحسن حظّي أن السيدة التي كانت قبل لحظات في فورة غضبها، تخلّت عنه فجأة وشاركتني الضحك من القلب. هم هكذا يضحكون دائمًا في أقسى المواقف وأصعبها. لم تضربهم لوثة العدائية بعد.  ندخل العرض وننتظر ساعة كاملة رغم امتلاء القاعة. يبدأ العرض في تمام الساعة المحدّدة. عرض محترف، ممتع، ورائع بسعر زهيد لأن الثقافة مدعومة وليس لأن الفرقة مغمورة أو دون المستوى المطلوب كما ظننت حين فوجئت بسعر البطاقة

إنها بعض أوجه الحياة في القاهرة التي لا تنام ولا تستسلم. إنها القاهرة التي تفشل كلّ المحاولات لخلق مسافة بينك وبينها، لأن ذلك يبقيك عائمًا على سطحها ويفقدك التمتع بسحرها. القاهرة هي التفاصيل، والتفاصيل لا تُقرأ ولا ينظر إليها من أعلى، بل تعاش شارعًا بشارع وزقاقًا بزقاق. القاهرة هي الناس ومهما صمدت في الحفاظ على خصوصيتك فلا بدّ أن ينتهي بك المطاف وانت تستعير طرافتهم وتتحدث لهجتهم وتجيب كلّ من سألك عن رحلتك بالقول: زي القِشطة

فكرة واحدة بشأن "القاهرة هي التفاصيل ومتعة الغرق حتى القعر"

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s