القاهرة إطار لذاكرة مصورة في اللغز والرواية والفيلم

كانت القاهرة أول عاصمة زرتها في حياتي. لم اشعر يومها أنها ستكون زيارتي الأخيرة لها. لا علاقة لهذا الشعور بالمثل القائل ”اللي يشرب من النيل لازم يرجع له تاني“، بل لأنه لا يُمكن لزائر هذه العاصمة الحيويّة أن يتعامل معها سياحيّا، أيّ أن  تنتهي وظيفتها ما إن ينهي جولاته السياحيّة التي يُتوّجها بزيارة الأهرامات والتقاط الصور التذكاريّة أمام أبو الهول، ليُخطّط بعدها لزيارة بلد آخر والتقاط صور يضيفها إلى ألبومه السياحيّ.  لست واثقة إذا كان الشعور نفسه ينتاب الذين يزورون بيروت. ولكن أخمّن ذلك. تكرّرت زياراتي إلى القاهرة. وكنت أشعر في كلّ مرّة أنني أعيد اكتشافها، أو بالأحرى أكتشف فيها أشياء جديدة

كانت زيارتي الأخيرة إلى القاهرة سياحيّة الطابع. سببها الرئيس هو الهروب من زحمة بيروت في الأعياد التي تزداد أضعاف ما هي عليه مع انهمار المطر وتشكّل السيول وبرك المياه في وسط الطرق العامة. قد تبدو المفارقة غريبة ومُضحكة. لا أحد يهرب من الزحمة إلى القاهرة. هذه العاصمة التي يدخلها يوميًّا ما يزيد على مليونيّ مواطن لانهاء معاملات رسميّة ويقيم فيها عشرة ملايين نسمة.  زحمة خانقة في القاهرة، ولكن السماء صافية وليست هناك أمطار، فلا بدّ إذن من المشي علمًا أن الهواء بارد جدًا في أحيان كثيرة

  القاهرة مشيًا تختلف عن القاهرة بالسيارة. والقاهرة فوق الجسور(الكوبري) هي غير القاهرة تحت الجسور التي تحملك إليها ”غوغل ماب“ لتجنّبك السير في الطرق العامة بعدما تحدّد المكان الذي ترغب في الوصول إليه عبر هذا التطبيق، مشيًا. زحمة سير فوق الجسور وزحمة بشر تحتها. أبواق سيارات تصمُّ الآذان في الأعلى، ونداء الباعة وصراخ الزبائن وصريرالجسر تحت وطأة آلاف العجلات التي تجتازه على مدار الساعة  إلى روائح الأطعمة والخضروات المُتعفّنة التي تختلط بروائح الناس  في الأسفل. تشعر بالقلق والتوتر ثم بالاختناق ثم بالرغبة في التلاشي لأنها الطريقة الوحيدة للخروج من هذا المكان الذي أوجدت نفسك فيه هربًا من الزحمة في الأعلى وتجنبًا لقيادة المصريين المتهورة. ليست هناك إشارة تخبرك أين أنت، و”غوغل ماب“ يحدّد لك فقط عدد الكليومترات التي عليك اجتيازها لبلوغ وجهتك : منطقة الحسين! ثم ما همّك إذا عرفت اسم الشارع الذي أنت فيه أو لم تعرفه، ما دام ذلك لن يساعدك في الخروج من المأزق الذي وضعت نفسك فيه، سوى السير قُدُمًا والتأكد من أنك تضع قدمك في المكان المناسب، من دون أن تدوس على أيّ من البضائع المفروشة أرضًا حيث تختلط الخضروات باللحوم، واللحوم بالدجاج، والدجاج بالأقمشة، والأقمشة بالنحاسيّات، والنحاسيّات بالأدوات الكهربائية… وكلّها محاطة بأكوام من الوحول والقمامة والمياه الآسنة. لم تردعنا هذه الزيارة (أنا وسمير) من تكرار التجربة ثانيةً. اعتبرنا أننا ضللنا طريقنا في المرة الأولى وأنه لا بدّ أن نتعلم من خطئنا في المرّة الثانية. سنذهب الى ميدان التحرير ومنه إلى شارع طلعت حرب هناك سنسأل كيف يُمكننا الوصول مشيًا إلى متحف السُحيمي في شارع المعز. إنها مسافة قصيرة نسبيّا لا تتعدى كليومترين إثنين. لم تكن التجربة الثانية أفضل من الأولى، بل ربما أسوأ. لذا، ظلّت الحاجة إلى ”غوغل ماب“ مُلحّة ربما للشعور بأن الأقمار الإصطناعيّة ترعانا! لم يكن هناك زحمة. الشوارع شبه فارغة لأن اليوم جمعة ولن يخرج المصريون إلى ممارسة حياتهم اليوميّة قبل الصلاة . بدأنا المشي ووجدنا نفسيْنا ندخل أحياء شعبية وطرقًا لم نطأها من قبل لا بواسطة السيارة ولا مشيًا ولا بأي نوع من وسائل التنقل. أصبحنا في منطقة يكثر فيها أصحاب اللحى وترتفع فيها أصوات مآذن الجوامع. رعب حقيقي انتابني لحظة اجتياز هذه المنطقة. ماذا لو اوقفونا؟ ماذا لو اعتدوا علينا؟ ماذا لو شتمونا؟ ماذا لو انفجرت عبوة ما؟ عشرات الأسئلة المشابهة اخترقت رأسي في عشر الثانية وجعلتني ألهث وأتصبب عرقًا باردًا. حين أخبرت صديقي المصري عن هذه المغامرة قال لي بعدما أبدى كلّ علامات الاستغراب والاستهجان لوصولنا إلى هناك إن ”هواجسي كانت  في مكانها لو زرت هذا المكان قبل أربعة اعوام. أما اليوم فجلّ ما قد يفعله الملتحون هو النظر شذرا“. صادفنا القليل من الرجال في بادئ الأمر ثم بدأ العدد يزداد تدريجيًا وكان السواد الاعظم منهم من أصحاب اللحى. ظهر عدد قليل من النساء ولكن جميعهنّ محجبّات ثم ارتفع العدد وبقين جميعهن محجبات. كنت السافرة الوحيدة التي تسير في الشارع ما ضاعف خوفي وتوتري. نخرج من  أحياء شعبية لندخل في أحياء أكثر شعبيّة. كنّا كمن يدور في متاهة لا نعرف كيف ننفذ منها. ترفع رأسك قليلًا ”عسى ولعلّ“ تجد من أو ما يرشدك إلى الطريق، فلا تجد سوى أبنية مهترئة، ألوانها باهتة لا تميّز حدودها لشدة التصاقها ببعضها البعض.أبنية خُلعت أبوابها ونوافذها واستعيض عنها بصفائح من الحديد أو ألواح من الخشب أو قطع من القماش. أبنية تشعر أنها ستهوى فوق رأسك لشدّة قدمها  وارتفاع عدد الناس الذين حشروا بداخلها. تشير”غوغل ماب“ إلى ان كليومترا واحدًا يفصلنا عن متحف السُحيمي. كيف يُعقل أن يكون ثمّة متحف في هذه المنطقة التي تراءى لنا أنها الاكثر شعبية وفقرا في القاهرة. لا بدّ أن ثمة خطأ ما، ولكن لا خيار أمامنا سوى اللحاق بإرشادات ”الغوغل ماب“. وكنا كلما توغلنا في هذه الأحياء كلما ازداد الوضع سوءًا إلى أن بلغنا مكانًا قرأنا فيه لافتة ”باب الشعرية“. هنا أصبت بالجمود. باب الشعرية. انا أقف هنا في باب الشعرية. اي سائح يقصد هذه المنطقة! في زيارتي الأولى للقاهرة في العام 1994، طلبت من سائق التاكسي أن يأخذني في جولة إلى الزمالك والمهندسين وغاردن سيتي ، حين سالني عن الغاية من هذه الجولة أجبته:”أريد أن أرى الأمكنة التي رافقتني في طفولتي حين كنت أدمن قراءة المغامرين الخمسة“. ابتسم وقال: ”هذا اغرب طلب سمعته في حياتي“. في رحلتي التالية التي جاءت  بعد أعوام طويلة، بحثت عن عمارة يعقوبيان إثر قراءتي لرواية ”عمارة يعقوبيان“ لعلاء الأسواني. وقفت أمامها وتأملتها ، ولم أجرؤ على الدخول إليها لأن الظلام كان قد حلّ، ولم تكن القاهرة تعيش أفضل أيام الامان . وسمعت أحد الرجال الذين سألتهم عن العنوان، يقول بعدما رآني أقف أمام المبنى وأتأمله من الخارج ”ناس مخّها فاضي“. في باب الشعرية ووقفت وتلفتت حولي. توقعت أن أصادف الفتوة فريد شوقي أو الخارج عن القانون توفيق الذقن أو الفتوة الآخر محمود المليجي أو رجل المباحث عمر الحريري أو العالمة ناديا الجندي. ولم أصح من الحلم إلّا على صوت سمير ينادني لأسرع الخطى. وكأني سمعته يقول لي ” اطلعي من الكادر“. ولكن القاهرة هي إطار لذاكرة مُصوّرة في اللغز والرواية والفيلم لا يمكن الخروج منها. تلك كانت القاهرة التي لطالما بحثت عنها في رحلاتي.  القاهرة من الأسفل…يتبع

 

فكرة واحدة بشأن "القاهرة إطار لذاكرة مصورة في اللغز والرواية والفيلم"

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s