لأنك رحلت

  

235031Image1

كلّما سمعت المطلع الموسيقيّ لأغنية ”يا هلا يا هلا فيكن وغناني الحب اغنانيكن“ رفعت صوت المذياع في السيّارة، وابتسمت. سأستمع لربع ساعة من الوقت برفقة ”أبو الزلف“ ومونولوغه الرائع الذي يضحكني في كلّ مرّة كأنني أسمعه للمرّة الأولى. لم يُخفّف استماعي لهذا المونولوغ، على أثير “صوت الشعب” على مدى أعوامٍ طويلة وبمعدّل مرّة في الأسبوع على الأقلّ، من بريقه. كما لم ينل من دهشتي الدائمة التي تستدرج قهقهة عالية لدى سماعي بعض المقاطع والعبارات الواردة فيه

… وتعرّفت على زياد أبو عبسي. لم أُصدّق أنني أتعرّف على ”أبو الزلف“ الذي أرعبني حين هبط على مسرح البيكاديللي قبل أن ألتقيه شخصيًا بنحو ستة أعوام. وفي المناسبة، كانت ”شي فاشل“  المسرحيّة الوحيدة التي شاهدتها لزياد الرحباني على المسرح ( من انتاجه خلال الحرب). وما أزال أذكر تمامًا الذعر الذي أصابني حين قفز ”أبو الزلف“من كتاب التاريخ على المسرح محدُثًا ما يشبه الزلزال بنظر المراهقة التي كنتها.  لا أذكر ظروف التعارف، ولكنّنا صرنا صديقين جمعنا حرم الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة التي كنت أتعلّم فيها وكان هو يُدرّس فيها المسرح والإخراج. يقولون أن كلّ الذين يعانون من السُمنة المُفرطة يتمتعون بطرافة لافتة وبقلب طفل. لا أدري إذا أمكن التعميم، ولكن أبو عبسي كان من هذه الطينة. كان طفلًا. يحرد، يشاغب، يلعب، يضحك من قلبه، يحب المأكولات على أنواعها ويتناولها سرًا بعيدًا عن أعين الناس الذين سيلومونه على عدم الإهتمام بصحّته 

عملت مع زياد أبو عبسي في مسرحيتين، أنا التي تقتصر علاقتي بالمسرح على المشاهدة فقط. ولكنه أصرّ. هكذا يفعل الأصدقاء برأيه، يعملون سويّة. أوكل إليّ مهام مديرة المسرح  . كانت المسرحيّة الأولى أماديوس(قصة حياة موزار)، وكانت عملًا أكاديميًا رائعًا عُرض على خشبة مسرح غولبنكيان في الجامعة. أما المسرحية الثانية فكانت ”رجع نعيم راح“ من تأليفه وإخراجه وعُرضت على خشبة مسرح فرساي على ما أظن. تخرجت في الجامعة وانصرفت الى العمل وغرق كلّ منّا في قصصه وهمومه. لم اعد التقي زياد أبو عبسي إلّا في ما ندر، ولكن” أبو الزلف” كان رفيقي الدائم ينتزع مني القهقهة نفسها رغم كل التوتر الذي يحيط بي في زحمة السير. كان في لقاءاتنا القليلة المتباعدة فائض حبٍ وودٍ وضحك ووعد بلقاء حقيقي مثل أيام زمان. يرسل إليّ سلامًا وأشواقًا مع أصدقاء وأبادله بالمثل ونجدّد وعودنا بلقاء قريب.”بحبك زياد كتير وبيحترمك“ يقول لي الأصدقاء الذين نكتشف أنهم مشتركون فنحملهم السلامات والتحيّات. و”أنا      أيضًا أحبّه كثيرًا“ أجيب بمودة كبيرة

لم نلتق. ورحل زياد. هكذا بهذا القدر من البساطة والأسى رحل. ومع كل رحيل عزيزٍ أتيقن كم أن الحياة سخيفة وتافهة. رحيل زياد تأكيد إضافي على هذه القناعة. لماذا نهمل لقاء الناس الذي نحبّهم؟ لماذا نؤجّل لقاءهم؟ لماذا لا نستفيق على حجم الخسارة إلّا لحظة فقدانهم، لماذا لا نلتقيهم في حياتهم، ونفتقدهم في مماتهم؟

بحثت عن مقابلة أجريتها مع زياد أبو عبسي منذ زمن طويل. فلفشت كلّ أرشيفي. لم أجدها. مقابلة أجريتها في زمن كنت ما أزال أكتب على الورق، ولا احتفظ بنسخة مما أكتب إلّا في حال نشر الموضوع في الصحيفة. بحثت وبحثت ليس لأنني أرغب في أن أعيد نشر هذه المقابلة على مدونتي فسحب، بل لأنني كنت أتوق لأستعيد ذكريات هذا اللقاء. ماذا سألته؟ وبماذا أجاب؟ كنت أرغب في أن أحييه مجددًا في صورته التي عرفته فيها على مدى أعوام طويلة: فرحًا، ضاحكًا وطفلًا كبيرا 

سأنتظر ”أبو الزلف“ على الإذاعة، وسأرفع صوت المذياع، وسأقهقه كما في كلّ مرّة وسأضيف دمعتين مع كلّ ضحكة… لأنك رحلت 

فكرة واحدة بشأن "لأنك رحلت"

  1. التنبيهات: لأنك رحلت | Nizar Rammal

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s