دولة الـ اندر كونترول تتفوّق على نفسها في مكافحة جريمة الكلمة

41179723_303.jpg

 أرسل لي زميل وصديق مصري على البريد الخاص يسألني: ”من اللي يقدر يقمعك؟ قوليلي وأنا أخطفهولك على طول“. لم يخطر في باله أن شعار ضد القمع الذي شكّل إطارًا لصورتي الشخصيّة على فايسبوك هو جزء من حملة تعترض على ما آل اليه وضع حريّة التعبير في لبنان. لم يصدق! ”حتى أنتم في لبنان تتعرّضون للقمع! احنا عنا في مصر بيعملو قانون لمراقبة الفايسبوك واحنا  معارضينه“ قال لي .”يبدو أننا نتناول من الطبق عينه”، أجبته. له الحق في ألّا يصدّق أن القمع بات ظاهرة تستوجب الاعتراض في لبنان. في المناسبة، حصل هذا الحديث قبل استدعاء الدكتورعصام خليفة للتحقيق معه لدى المباحث الجنائيّة على خلفيّة شكوى مقدمّة ضدّه من رئيس الجامعة بجرم القدح والذم، ممّا وفّر عليّ حرجًا كبيرًا، لأنني لن أجد ما أدافع به إذا قال لي مثلًا:”ايه ده انتو سبقتونا بأشواط، أو إنتو بقيتو مدرسة في القمع بعد ما كنتو مدرسة في الحرية“. لن نفتح الآن كتاب التاريخ وننهل من الأمثلة ونستذكر الأحداث والمواقف التي تؤكد أنّ استغراب صديقي مبرّر ومشروع. لقد أصبح، استطرادًا، كلّ لبنان مجرد تاريخ، ويبدوأننا نعيش منذ أعوام قليلة وحتى يومنا هذا في بلد آخر هو غير لبنان الذي قرأنا عنه أو أخبرتنا عنه الأجيال السابقة. هذا ألطف إخراج لتدحرج البلاد على المستويات كافة إلى قاع القاع. مراقبة ما يقال أو يكتب أو ينشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي هو لا شك أمر مثير للشفقة وينطبق عليه المثل القائل من راقب الناس مات همًا. إنهم الناس بالمعنى الواسع والفضفاض للكلمة . يتحدثون على صفحاتهم تمامًا كما يتحدّثون في الأفران، والمقاهي، وسيارات الأجرة، والبيوت، ومن على شرفات المنازل. إنهم يثرثرون، ويتذمّرون، ويشكون همومهم، ويحلمون، ويطبخون، وينفخون . أي إنهم يعيشون يوميّاتهم عبر هذه الصفحات. كيف يمكن مراقبة كلّ هؤلاء بشكلٍ عادلٍ ومن دون التمييز بين مواطنٍ وآخر في التعامل مع ما يتفوّه به على مدار الساعة ؟

لقد فات أجهزة المراقبة أو مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية (بالمناسبة الإسم وحده يحدث الرعب في النفوس :جرائم !!!) أنهم يساهمون من حيث يدرون أو لا يدرون في نشر ما يعتبرونه قدحًا وذمًا وإساءةً في حق الوطن ورجالات الدولة على أوسع نطاق مع توقيف كلّ من يعتبرونه تجاوز حدود الكلام المسموح به في أعرافهم. وللأمانة لم يكن معظم المواطنين، على سبيل المثال لا الحصر، على اطلاعٍ على ما قاله شربل خوري عن مار شربل ولا يدرون بتعليق جويل سليم على مار شربل أيضًا. ولكن بفضل مكتب مكافحة جرائم المعلومات أصبح كلّ اللبنانيين على علم بتفاصيل القول والردّ ”المجرميْن“ التي جرت مكافحتهما بالتحقيق ثم منع شربل خوري من استخدام حسابه على فايسبوك لمدة شهرٍ كامل. ونعم الحكم!!! هناك آلاف التعليقات والصور التي تدرج في خانة القدح والذم بحسب المفهوم الرسمي للتعبير تُبث على مدار الثواني وليس الساعة عبر صفحات الفيسبوك ولا يراها الرقيب ولا يعاقب عليها ؟ماذا عن صورة العلم اللبنانيّ الذي استُبدلت فيه الأرزة بنبتة الحشيش في الإشارة إلى النيّة في تشريع الحشيش في لبنان؟ أو ليس في هذه الصورة التي انتشرت في لبنان والمهجر، عفوا بلاد الانتشار، تحقيرًا لعلم البلاد ودائما بحسب المعايير الرسميّة؟ لماذا لم يوضع الشعب اللبناني المقيم والمهاجر،عفوا المنتشر، في النظارة؟ أو ليس هذا ظلمًا يعكس عدم مساواة بين المواطنين ؟ لا بدّ أن تفعّل الدولة أجهزة الرقابة وأن تتفرّغ لمراقبة كلّ حرف يُكتب أو كلّ نفس في غير مكانه حتى تُحقّق المساواة المنشودة. ما دام تحقيق العدالة في الميادين الأخرى أمرًا مستحيلًا وميؤوسًا منه، فلتتحقق على هذا المستوى!!  هكذا تكتمل صورة المساواة في أبهى حللها ويمكن للدولة عندها أن تطمئن أن كلّ الامور تحت السيطرة وترفع شعار”دولة الـ أندر كونترول“.  وحتى  يستقيم وضع العدالة والمساواة لا بدّ أن يطال العقاب كلّ من لييك (من لايك ) وكلّ من شيّر(من شير) ”الكلام المجرم“ الذي استوجب توقيف صاحبه. ولا ضير في أن يوقفوا أيضًا كل من ابتسم أو ضحك أو ساهم في نشر التعليق شفويًا. ولمزيد من ضمان سير العدالة وإحقاقها لا بدّ من مراقبة الواتساب الشيطان الأكبر في نشر الشر.  لطالما ردّدت أنه لو أيقن مارك زوكربرغ أن الفايسبوك سيقع بين أيدي اللبنانيين، لما سمح لهذا الاختراع العبقري أن يُبصر النور. ولا يرتبط  هذا الموقف بما يقال عبر الفايسبوك بقدر ما له علاقة بالـ”جلقان” في استخدام هذه الوسيلة لعرض أتفهم الأمور بدءًا من قصة الشعر مرورا بتحديد المطاعم والمقاهي التي يرتادونها وصولًا الى الجلوس في ال ”في اي بي لونج“ في مطار بيروت الدولي. أما وقد تفوّق مكتب مكافحة جرائم المعلومات في لبنان على نفسه وعلى اللبنانيين أجمعين، فلا بدّ أن السيّد مارك يشعر بأسف وذنب تجاه اللبنانيين الذي سبّب لهم اختراعه  هذا متاعب جديدة وحوّل التعبير أكان حرًا أو سفيهًا إلى جريمة يعاقب عليها القانون الفضفاض الذي يعاد تفصيله وفق مقاسات استنسابيّة

عذرًا يا صديقي المصري إذا كنا قد سبقناكم في الرجوع خطوات إلى الوراء فنحن اعتدنا أن نكون السبّاقين في كل شيء. ولكن شاء حظنا العاثر أن ثمة من غيّر وجهة سيرنا من الأمام إلى الخلف وبالسرعة نفسها. ونحن شعب مسكين لا حول له ولا قوة ينتخب ولا يعترض، ويتلهى عبر الفايسبوك إلى أن يحين موعد الانتخابات المقبل، فيسير خطوات دؤوبة إلى الوراء

ملاحظة: أرجو ألّا يجري استدعائي خلال عطلة نهاية الأسبوع لارتباطي بمناسبة مهمة وعزيزة على قلبي. وأنا تحت أمركن إعتبارا من  الساعة الحادية عشر من صباح الاثنين وليس قبل لارتباطي بموعد لتنظيف البيت…وشكرًا

فكرة واحدة بشأن "دولة الـ اندر كونترول تتفوّق على نفسها في مكافحة جريمة الكلمة"

أضف تعليق