النبيذة لإنعام كجه جي رواية مذاقها سلس مثل النبيذ ومرّها يضاهي مرورته

36385167

تُحدث رواية ”النبيذة“ في قارئها أثر النبيذ المُعتّق في شاربه! تستحق الرواية أن تكون اسمًا على مسمى، علمًا أن الروائية إنعام كجه جي اختارت عنوان روايتها للدلالة على بطلتها تاج الملوك وفق ما تشير في الصفحة 248  ”تاجي عنقود من عنب أسود يعاند الأرجل العاصرة. نبيذها حلو، وهيمنتها على مذكراتي تضنيني(…) أمسك القلم وأتردّد. أكتب نبيذ وأتأمل المفردة. أضيف إليها تاء التأنيث ”نبيذة“. تنسج كجه جي خيوط روايتها الصادرة عن دار الجديد في العام 2018 على مدى 325 صفحة من خلال ثلاث شخصيّات هي:  تاج الملوك عبد المجيد العراقيّة من أصل إيراني والصحافيّة المتحرّرة صاحبة مجلة الرحاب التي رعاها نوري السعيد في أربعينيّات بغداد، ومنصور البادي زميلها الفلسطينيّ  في إذاعة كراتشي الذي هاجر إلى فنزويلا وأضحى مستشارًا لرئيسها هوغو تشافيز، ووديان الملّاح العراقيّة وعازفة الكمان في الأروكسترا الوطنيّة التي يُثقل أذنيها صمم عوقبت به لأنها تمرّدت على  نزوات “الأستاذ”. تسخّر  كجه جي هذه الشخصيّات الثلاث لتوغل في  تاريخ العراق القديم والحديث وترسم صورة يختلط فيها الواقع بالخيال لهذا البلد الذي خرج منه المُستعمر الإنكليزي ليعود إليه عبر اتفاقية بورتسموث التي رفضها الشارع العراقي فسالت الدماء ولم تسقط الاتفاقية. ذلك  هو العراق الذي عرفته تاج الملوك، الصحافيّة الموالية للقصر، مدلّلة نوري السعيد  التي خرجت منها هربا من الاعتقال بعدما انقلبت على نوري السعيد وشاركت في التظاهرات المعادية للاتفاقية.  موقف سيعاقب عليه العراقيون وفق ما أشارت إليه كجه جي في ص 151 ”سيُعاقب أبناؤها على جهودحهم. وتبقى المعاهدة سرّية حتّى ربيع 56. وقبل انتهائها جاء حلف بغداد… يا أم حسين كنّا بوحدة صرنا اثنتين“. في المقابل، هناك العراق الذي عاشته وديان الملّاح، أي العراق الذي خاض حربًا طويلة مع إيران، والعراق الذي عانى الظلم والاضطهاد في عصر صدام حسين ودفع شعبه أثمانًا غالية من القهر والذل والقتل والاعتقال وضياع المستقبل. يلتقي هاذان “العراقان” في باريس لتكتمل صورة البلاد المُمزّقة في تاريخها القديم كما الحديث. ولكن للعراق جوانب جماليّة وإبداعيّة وفنيّة لا تُغفل الروائية ذكرها بل توثّقها بلغة العارف بإرث البلاد الغني بشعرائه وأدبائه ورساميه… حين تخرج كجه جي من العراق، تذهب إلى فلسطين التي تحكي حكاية أخرى بل هي أولى حكايات العصر الحديث عن الشتات واللجوء وعذابات شعب انتقلت من جيل الى جيل الى جيل، فولدوا وماتوا لاجئين في دول العالم.”فعلناها يا خيي… أسّسنا سلالة عربيّة في فنزويلا. لا يدري كيف مرّ العمر عليه في القارّة البعيدة. لم يكن يدري أن واحدًا من تلك السلالة العربية سيصبح سفيرًا لفنزويلا في عاصمة لا تبعد عن القدس كثيرًا”. تختصر كجه جي  بهذه العبارة الواردة في الصفحة 292  وبعبارات كثيرة مشابهة في كثافة معانيها، قصة الشتات والعودة  المؤجلة إلى فلسطين التي ربما استحالت مستحيلة للبعض. إذ أسّس الفلسطنيّون سلالة في الجانب الآخر من العالم وأصبحوا سفراء لدول غير دولتهم الأم!  ورغم أن الرواية ليست عن فلسطين ولا عن الفلسطينيين، فقد نجحت كجه جي في إدخال قصة فلسطين في قصة العراق متجنبة بذكاء الوقوع في فخ الإقحام. هكذا دخل منصور البادي في صلب الرواية  وشارك الى جانب وديان وتاج الملوك في حبك أحداث الرواية وصهرها لتبدو كلّا متجانسًا ومتماسكًا

انتقلت كجه جاي في رواية ”النبيذة“ من ذاكرة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر برشاقة وسلاسة، فحملت القارئ من زمن نوري السعيد ”الحليف الوفيّ الغامض. مرن وجبّار. هكذا وصفته غرترود بيلّ، صانعة الملوك” (ص154) إلى زمن ”الأستاذ“ الذي يجسّد صورة النظام البعثي السلطوي والقمعي والمستهين بكرامات المواطنين وصولا إلى زمن احتراق بغداد، وهو مشهد تتشارك وديان وتاج الملوك في متابعته من باريس. ”تابعنا معًا التلفزيون. رأينا الحشود وحاملات الطائرات والبوارج تتجه نحو الخليج. تركنا العشاء باردًا وأطفأنا الضوء. تركت التلفزيون صوت بلا صورة وغطّيت تاجي بعدما سمعت شخيرها“(ص298). كثيرة هي المعاني التي ضمنتها كجه جي في وصفها مشهد الاحتراق : كان العراق بذاكرتيه القديمة والحديثة بل بتاريخيه القديم والحديث يتحوّل إلى مشهدٍ من نار على شاشة أميركيّة هي ”السي.أن.أن“. الترميز هو اللغة التي اعتمدتها كجه جي في أكثر من موقع في رواية ”النبيذة“. وما بدا استخدامًا ذكيًا في مواقع معينة منها مشهد احتراق العراق، بدا غير منطقيّ في مواقع أخرى أهمها  شخصيّة ”الأستاذ“ الذي تسبّب بعاهة الصم لدى وديان. ليس مبرّرًا أن يكون ”الأستاذ“ الشخصية الوحيدة التي لم تطلق عليها كجه جي أسمًا في رواية تتّسم بالواقعية والتوثيق لمحطات من تاريخ العراق القديم والحديث، لعلّها أرادت من خلال ذلك ألّا تحصر البطش في شخص واحد وتصوير الأمر على أنه فعل فرديّ أو شخصيّ، بل رغبت في أن يشكّل الأستاذ “نموذجًا” لمفهوم القوة والسلطة والتحكم في العباد انطلاقًا من النظام الأمني الممسك بكلّ مفاصل البلاد، علمًا أنها في وصفها كانت تعني شخصًا واحدًا دون سواه ولم ينقص سوى أن تخطّ إسمه، وهو ما لم تفعله خوفًا ربما؟!  أحسنت كجه جي اختيار أحداث روايتها. لم تغرق في التفاصيل ولا انزلقت في أحداث قد تضعف الحبكة وتخرجها عن سياقها بقدر ما تجنّبت التسطيح. ولعل الضعف الوحيد الذي يسجّل في حق الرواية يتعلّق في رسم شخصيّة تاج الملوك المرأة التي فتنت قلوب الرجال ولوّعتهم. إغراء وجمال وجاذبيّة وسواها من الصفات التي نقرأ عنها من دون أن نلمسها أو نشعر بها، ممّا يجعل هذه الشخصيّة غير مُقنعة في كثير من جوانبها. قد يعود الأمر إلى المبالغة في الأدوار التي أناطتها الروائيّة بتاج الملوك، وكانت غير منطقيّة ولا منسجمة مع بعضها. وبدا تكرار هذه الصفات بشكل لافت وفي كلّ مناسبة تلتقي فيها برجل ما، لزوم ما لا يلزم، وخصوصًا أنها جاءت على حساب مشاهد أخرى كانت تستحق عناية أكبر من الكاتبة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر زيارة وديان لبغداد بعد طول غياب عنها لحضور جنازة والدتها. اختصرت الكاتبة هذه الزيارة بعبارة مُقتضبة من دون أن تبرّر ذلك أو تفسّره ما عكس نقصًا مهمًا في أحداث الرواية. في المقابل، رسمت كجه جي شخصيّة وديان بعناية واتقان خلافًا لشخصية تاج الملوك إلى حد يشعر فيه القارئ أن الصمّ قد أصابه أيضًا بنفس القدر الذي يسمع فيه عزف الكمان صادرًا من الكتاب ويرى النوتات الموسيقية تتراقص أمام عينيه. ذلك أن كجه جي تحدّثت عن الموسيقى بلغة العارف ووصفت علاقة وديان بآلة الكمان بأدق التفاصيل وأرق المشاعر والأحاسيس، ما يدل على ثقافة عالية وحرص على التعمق في بحثها في كلّ المواضيع التي تناولتها روايتها واستوجب ايراد معلومات بشأنها. وساهمت اللغة الرشيقة والصور الشاعرية التي طغت على مناخ الرواية في تعزيز هذا الانطباع وترسيخه، علمًا أنه يؤخذ على كجه جي أنها صاغت عملها بلغة واحدة استخدمتها في كل مستويات الرواية ومحاورها. فتحدثت عن الحرب بنفس اللغة التي اعتمدتها للحديث عن الحب مما أضعف الرواية في بعض جوانبها

بدأت رواية ”النبيذة“ قصّة عن العراق، وانتهت قصّة حب غير مكتمل بين تاج الملوك ومنصور البادي. فصارت قصّة الحب في الجزء الأخير من الرواية هي الأساس بعدما كانت في الجزء الأكبر من الرواية اطارًا جماليًا وشفافًا لرواية مليئة بالقهر والظلم والدموع. قد يظن القارئ أن الرواية ستنتهي عند مشهد احتراق بغداد، بل يشعر فعلًا أن الستارة ستسدل على هذا المشهد، ليتفاجأ أن الرواية تستأنف أحداثها لتصبح قصّة حب بامتياز ما يفقد العمل سحره ويقفل باب تخيّل النهايات، اللعبة التي يحبّ القارئ أن يتركها له  الكاتب لا أن يُقدمها له. وبمعزل عن جماليّة الوصف الذي طرّزت فيه كجه جي ذبول جسم تاج الملوك وانطفاء خلاياها خليّة خليّة، فقد بدا هذا المشهد في غير مكانه. وجاء سيناريو اللقاء بين الحبيبين، وقد تجاوزا الثمانين من عمرهما ليهبط بالرواية بدلًا من أن يُبقيها مُحلّقة كما كانت على مدى صفحاتها السابقة، وخصوصًا أن الكذبة التي روتها تاج الملوك لوديان حول لقائها حبيبها منصور في السرير، يذكّر برائعة غابرييل مارسيا ماكيز “حب في زمن الكوليرا”. ولأن ماركيز ارتقى في وصف اللقاء بين بطليّ روايته إلى أعلى وأجمل درجات الوصف، فإن لقاء أي حبيبين في هذا العمر ملك له. وأيّ وصف مشابه سيبقى دون المستوى واستعارة يحتاج صاحبها لأن يحدّد مصدرها لينقذ المشهد    من تهمة التقليد. ينطبق المبدأ نفسه على وصف منصور البادي للقائه معشوقته وهو مأخوذ من فيلم “سانس اند سانسيبليتي” لـ جين اوستن علمًا أن نهاية الحب بدت أقوى من الحب نفسه الذي يشعر القارئ أنه هبط عليه بمظلة

رواية ”النبيذة“، عمل متقن، غنيّ بمعلوماته، عميق بأفكاره، مؤثر بأحداثه ومعه يكتشف القارئ مرة جديدة أن ما ينقصنا في العالم العربي وجود محرّر ينصح الكاتب ويصوّب انحرافاته التي تضعف الرواية وتنال من قوتها وكمالها

فكرة واحدة بشأن "النبيذة لإنعام كجه جي رواية مذاقها سلس مثل النبيذ ومرّها يضاهي مرورته"

  1. جنى صحيح ما كتبته عن الرواية وخاصة عن شخصية تاج الملوك فهي تبدو قليلة الوضوح للكاتبة نفسها فكيف بها لنا!والرواية ممتعة كرواية وكمعلومات حملتها لنا عن واقع العراق عبر تاريخه!شكرًا جنى

    Liked by 1 person

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s