الثرثره تغلب على تغريدة البجعة فتجعلها أكثر اضطرابًا من بطلها .. ومكاوي سعيد يبدّد جهده والجائزة في حشو مملٍ أفقد الرواية رونقها  

IMG_0297.JPGتتناول رواية ”تغريدة البجعة“ للروائي المصري مكاوي سعيد حقبة السبعينيّات محاولةً إلقاء الضوء على التحوّلات التي أصابت المجتمع المصري حينذاك. ولا تأتي هذه التحولات، وفق الرواية، في إطار طبيعيّ تفرضه تطورات المجتمع بل تحدث بما يشبه الإنقلاب على هويته الأصلية، وذلك من خلال دخول التيّارات الإسلاميّة وتغلغلها في النسيج الإجتماعيّ المصريّ بكلّ أطيافه القوميّة واليساريّة والعلمانيّة …الخ. وبدلًا من أن يواجه المجتمع المصري التطرّف الإسلامي، يتماهى معه ويتنبنّاه ويحارب بسيفه. ولم يجد مكاوي سعيد أفضل من النموذج اليساري ليعالج فكرته من خلال تحوّل أحمد الحلو (أحدى شخصيات الرواية) من منظّر ماركسي إلى داعية إسلامي وكذلك تفعل زوجته شهيناز التي أصبحت منقبّة بعدما كانت ، في الصفحة 113، ”جرأتها مستفزّة وهي تسير بالكاد حاملة تحت إبطها مجلد رأس المال لكارل ماركس متنقّلة به من كافيتيريا إلى أخرى داخل الحرم الجامعي“. وهذه ظاهرة واجهتها المجتمعات العربيّة عمومًا وتناولتها معظم الروايات التي عالجت هذا الموضوع وخصوصًا أن أسهل طريق لتجسيد سيطرة المناخ الإسلامي على المجتمع وتأثيره على أبنائه هو اختيار النموذج اليساري وتحوّله الجذري من أقصى التطرف إلى أقصاه المقابل. وهكذا يصيب الكاتب ”عصفورين بحجر واحد“ فينال من اليساريين والعقائدين بوصفهم كائنات هشّة تتلوّن بحسب الظروف المحيطة ويظهر تأثير الإسلاميين على المجتمع المصري وسطوتهم عليه

تعالج الراوية التي صدرت طبعة أولى منها عن دار الآداب في لبنان في العام 2008 وهو العام نفسه الذي أدرجت فيه  على اللائحة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، تعالج قضايا أخرى لا تقلُّ أهميةً، ومنها أطفال الشوارع الذين يعيشون في عالم خاص بهم قوامه السرقة والمخدرات والعلاقات الجنسيّة يدخله مكاوي سعيد بواسطة كاميرا لتصوير وثائقي يجسّد يومياتهم، كما تسلّط الضوء على وجود الأجانب في مصر من خلال الأميركيّة مارشا صديقة بطل الرواية مصطفى والألماني إيفالد الذي أصبح اسمه عوض وبات يتحدث العاميّة المصريّة بطلاقة. ولا يهمل مكاوي سعيد التطرق إلى مواضيع إنسانيّة مثل الصداقة من خلال علاقة البطل بصديقه عصام، والعمل في الخارج، والزواج والطلاق. إنها باختصار رواية تحاول أن تنقل القارىء إلى الشارع المصري بكلّ تفاصيله الدقيقة، أو هي بالأحرى رغبة في بناء مجتمع كامل بناسه وشوارعه وأزقته وتاريخه وحاضره بين دفتيّ كتاب مؤلّف من 309 صفحات من القطع الوسط

سعى مكاوي سعيد إلى أن يحقّق غايته تلك من خلال شخصيّة محوريّة تعاني اضطرابًا أراده أن يكون صورة عن اضطراب المجتمع. إذ يقول في الصفحة 101 ”تنويعات على حالة شيزوفرانيا اتهمني بها الطبيب (…) الشيزوفرينا بدأت في مجتمعي أيها الطبيب. أنا مجرد عرض لها“. ولكن يبدو أن الاضطراب انسحب على الكتابة نفسها في ما يتعلق بأحداث الرواية وتماسكها وانسيابية المحاور التي يعالجها المؤلف. إذ تظهر بعض المواضيع مبتورة وفي غير سياقها يمكن تبديل مكانها أو حتى الإستغناء عنها بشكلٍ كلّي من دون أن يخلّف ذلك أثرًا سلبيًا على أحداث الرواية. ولعلّ أبرز مثال على ذلك قصة يوسف حلمي المخرج السينمائي الذي تنشأ علاقة بينه وبين بطل الرواية مصطفى. تبدأ هذه القصة وتنتهي في الجزء الأول من الرواية ولا يعود لها أي أثر في الصفحات اللاحقة، ممّا يُشعر القارئ أنها أُقحمت في الرواية، علمًا أن القصّة نفسها أو شخصيّة يوسف حلمي تستحق أن تسير في خطٍ متناسقٍ مع أحداث الرواية بل تكون في صلب أحداثها وخصوصًا أنها تخدم فكرة التأثير الإسلامي المتطرف على أطياف المجتمع. كان من الأجدى أن تأخذ هذه الشخصيّة، مع كلّ المعاني والدلالات التي تحملها، حقّها في الرواية بدلًا من أحداث أخرى مُملّة وشخصيات ليس لوجودها أيّ معنى ولا تخدم سوى الهوس الجنسي لدى البطل وهلوساته

أراد مكاوي سعيد أن تكون “تغريدة البجعة” رواية ترصد إيقاع المجتمع المصري بكلّ تعقيداته وتحوّلاته. وقد جمع لهذه الغاية أدق التفاصيل التي تساعده في تحقيق غايته. ولكن إيرادها في الرواية جاء مُربَكًا على أكثر من مستوى حيث طغت مغامراته العاطفيّة وعلاقاته الجنسيّة المرضيّة على المواضيع الأخرى حتى بدا في كثير من المحطات وكأن الرواية كُتبت خدمة لهذه الغاية. يخال القارىء أحيانًا أنها رواية عاطفيّة ورومانسيّة وليست الأحداث الأخرى(أطفال الشوارع، المدّ الإسلامي، الأجانب في القاهرة…) سوى أكسسورات تجميليّة. يعود هذا الانطباع إلى عدم التوازن في سرد الأحداث وإيرادها في سياقها الطبيعي حيث شكّلت علاقات البطل العاطفية بدءًا من حبّه العذري والأبدي لهند التي قضت في ”انفجار دانة تذكارية حصل عليها طلبة الجوّالة في معرض للغنائم عقب حرب أكتوبر 1973“ (ص 145) مرورا بعلاقته بزينب التي كانت محض جنسيّة وصولا الى ياسمين ومارشا وسواهن من النساء، جوهر الرواية وروحها.  حتى علاقته بصديقه عصام بدت غير مفهومة للقارئ. إذ يتحدث عنه مصطفى بنفس الحب والتعلّق الذي يتحدّث فيه عن حبيبته هند إلى حد يتراءى للقارىء أنّ ثمّة علاقة غرامية تربطهما ببعض. وليس ما يشير إلى أن مكاوي سعيد تعمّد وضع علاقتهما في إطارٍ من الشك كدليل على الاضطرابات النفسية التي يعاني منها الرواي- البطل مصطفى، بل على العكس أظهر تبنيًا لهذه العلاقة كما لو أنها تأتي ضمن السياق الطبيعيّ لمفهوم الصداقة حيث يغار الرجل على صديقه الرجل حين يقرّر أن يرتبط بإمرأة! تكاد لا تمرّ صفحة في الرواية من دون أن يرد فيها اسم عصام أو ذكر أمر يتعلق به أو بحياته أو بعلاقته بسامنتثا صديقته السنغافورية التي ستصبح زوجته قبل أن تطلب منه الطلاق وتسبّب له الضياع الكامل، لنكتشف أن قرارها هذا ناتج عن إصابتها بمرض السرطان. مع هذه الأحداث تخرج الرواية عن منحاها لتدخل في نوع من الميلودراما غير المبرّرة أو المقنعة. ويتكرّر هذا النوع من الأحداث التي تجعل الرواية تبدو كما لو أنها رواية حب من درجة متدنيّة  مع عشيقته زينب التي تنتقل الى المكسيك للزواج من شخص التقت به في إحدى حانات القاهرة  وكيف يفتقد لها فجأة ويشعر بحاجته الماسة إليها ويقتفي أثرها وصولًا إلى الاستدلال على عنوان أهلها في الصعيد وتقديم المساعدة المادية لهم. والمفارقة، أن عائلة زينب تشكّل مظهر الفقر الوحيد في رواية تدّعي رصد أحوال المجتمع المصري الذي يشكّل الفقر أحد أبرز سماته. ولا تعتبر معالجة موضوع أطفال الشوارع التي جاءت بدورها سطحية وتناولت البديهيّات من دون إضافة عناصرسرديّة  جديدة لقضيّة غنيّة بايحاءاتها، إشارة كافية الى الفقر في مصر في وقت يبدو فيه كل أبطال الرواية ومن يدور في فلكهم من الميسورين

أخيرًا وليس آخرًا، لا يُمكن للقارئ إنكار الجهد الذي وضعه مكاوي سعيد في رصد الشارع المصري خلال حقبة السبيعينيات، غيرأن حشو الرواية  بالكثير من الأحداث الهامشية والشخصيات التي لا قيمة فعليّة لوجودها، أضاع بوصلة الرواية وأغرقها في ثرثرات لا فائدة  منها وأفقدها الكثير من الجماليّة والخصوصيّة التي ربما كانت ستسعفها في  أن ترقى سلم الجائزة بشكل أفضل

فكرة واحدة بشأن "الثرثره تغلب على تغريدة البجعة فتجعلها أكثر اضطرابًا من بطلها .. ومكاوي سعيد يبدّد جهده والجائزة في حشو مملٍ أفقد الرواية رونقها  "

أضف تعليق